المنصور وغايته، وكانت صبح يومئذ في نحو الخمسين من عمرها، وقد تضرم ذلك الحب الذي شغفها بالمنصور دهراً، وأضحت تبغض ذلك الرجل الذي سلب ولدها كل سلطة؛ وأخذت تبث في نفس ولدها هشام مثل هذه العاطفة، وتدفعه بكل ما وسعت إلى مناوأة المنصور ومنازعته واسترداد سلطانه، وتولى مقاليد الحكم بنفسه؛ وأذاعت بواسطة أعوانها من الناقمين على المنصور دعوة شديدة، واتهمته بأنه يسجن الخليفة الشرعي ويحكم رغم إرادته ويغتصب سلطته. ولم تقف عند هذا الحد، بل فكرت في القيام بمحاولة عملية لمقاومة المنصور وإسقاطه، ففاوضت زيرى بن عطية حاكم المغرب الأقصى من قبل المنصور وأرسلت إليه الأموال سراً ليحشد الجند وليتأهب للعبور إلى الأندلس؛ وكان زيرى بن عطية أقوى زعماء المغرب، وكان مخلصاً لبني أمية يقوم بدعوتهم ويؤيدها، فلبى دعوة صبح، وأخذ يشهر بالمنصور وسياسته وحجره على الخليفة. ولكن المنصور فطن إلى المؤامرة قبل نضجها فبادر برؤية هشام المؤيد سراً، وتفاهم معه، وانتهى بأن أخذ منه تفويضاً كتابياً جديداً بالحكم؛ ونقل الأموال من القصر إلى الزاهرة حتى لا تمتد إليها يد خصومه. ثم تحول إلى زيرى بن عطية فعزله من منصبه وقطع رواتبه؛ فرد زيرى بأن محا اسمه من الخطبة وطرد عماله بالمغرب، وتأهب للحرب. وبعث المنصور إلى المغرب الأقصى جيشاً ضخماً بقيادة مولاه واضح فهزمه زيرى وارتد إلى طنجة؛ واستمرت الحرب حيناً بين الفريقين، وسار المنصور بنفسه إلى الجزيرة الخضراء وبعث إلى المغرب جيشاً كثيفاً بقيادة ولده عبد الملك، ونشبت بين الفريقين معارك شديدة هزم في نهايتها زيرى ومزق جيشه وفر إلى الصحراء الداخلية (٣٨٨هـ - ٩٩٧م).
وهكذا فشلت صبح في محاولتها، ولم يسفر ذلك الصراع المتأخر إلا عن توطيد سلطان المنصور وسحق البقية الباقية من خصومه ومعارضيه. ولم تك صبح في الواقع أهلاً لمقاومة ذلك الرجل القوي، خصوصاً بعد أن مكن له في كل شيء، ولم يكن الخليفة الأموي سوى شبح فقط. ونستطيع أن نقول إن الدولة الأموية بالأندلس قد انتهت فعلاً بانتهاء عهد الحكم المستنصر، ولم يكن استمرارها صورة على يد هشام المؤيد، أيام المنصور، ثم تجددها بعد ذلك على يد الزعماء الثائرين من بني أمية، إلا مرحلة السقوط النهائي. ولما أيقنت صبح أن المقاومة عبث، وأنه لا منقذ لولدها من ذلك النير الحديدي، لجأت إلى