مغاور الجبل فرأت بين الأوراق أذنين مصرورتين تحتهما عينان تشعان الخطر، وتقدحان الشرر، فعلمت أنه الذئب! وأرادت أن تمضي في سبيلها، فضحك منها الذئب حتى بدت أنيابه المصل، واندلع لسانه الغليظ؛ فاستيقنت الموت وتذكرت ما سمعته عن مصرع العنزة رينود، فهمت بالاستسلام؛ ولكن بدا لها أن تدافع، لا لأنها تعتقد أن العنزة تقتل الذئب، ولكن لأنها تربأ بكرامتها أن تكون أقل شجاعة من رينود. والحق أن بلانكيت اضطرت الذئب أن يستريح عشر مرات أثناء المعركة، وفي كل استراحة كانت تملا فمها بالعشب الندي، وترقب طلعة الفجر في الأفق الحالك، ثم تعود إلى الصراع؛ حتى لاح الضوء الشاحب، وصاح الديك المؤذن، فخرت شهيدة الحرية بين يدي الذئب وهي تلفظ مع نفسها هذه الجملة:
الحمد لله قد بلغت أمنيتي، وإن لحقت بي منيتي!
قالت الفتاة: قصة طريفة! ولكني أعدك مادمت عندك أن الزم الحظيرة ولا أفك القيد ولا أخلع الزمام. فقلت لها: لا تنسي يا بنيتي أن حظيرتك عند أخيك لا عندي، وأن حريتك في قيده لا في قيدي، وأن زمامك بيده لا بيدي. وهيهات أن أكون لك إلا أباً يشفق أو أخاً يعين أو معلماً يرشد. فقالت وهي تنهنه عبرة تريد أن تقطر: ليكن! حسبي أن أراك وأن أسمعك! لقد حاولت أن أغويك فلم أستطع، فحاول أنت أن ترشدني فلعلك تستطيع. سأجعل في يديك مقاليد أمري، وأودع بين جنبيك مكنون سري. وسأتبين معالم الطريق في ضوء مصباحك، وأنشد سكينة القلب في ظل جناحك. فقلت لها أعانني الله وأعانك. ثم افترقنا ونفسي تغالب الضلال ونفسها تغالب الهدى، وما تدري نفسي ولا نفسها ماذا نكسب غداً!
يوم الخميس ١٧ مايو سنة ١٩٤٥:
كان لقاؤنا الثاني في مطعم الكرسال ظهر هذا اليوم؛ وكنت قد واعدتها على هذا اللقاء ساعة انصرافنا من جروبي. وكانت هي شديدة الحرص على أن نلتقي كل يوم، ولكنني أقنعتها بأن تجعل بين اللقاءين أسبوعاً لتعرف فيه خبيئة نفسها ودخيلة هواها، لترد يوم ترد عن بينة، وتصدر حين تصدر عن بصيرة. سبقتها إلى الموعد في هذه المرة فتخيرت مائدتنا في ركن من أركان المطعم الفخم. ولم يكد يطمئن بي الجلوس حتى رأيتها مقبلة في زينتها الكاملة: فرأسها النفرتيتي الساحر قد خلص من يد الحلاق الساعة؛ وفستانها