الاحتجاج بالإجماع والتقيد بما أقره من أحكام - أنه لا بد أن يكون له سند من النص أو القياس بمعناه الواسع الشامل للاستنباط من عمومات الشريعة.
وعلى ذلك فالصورتان الأولى والثانية من الصور الثلاث التي ذكرها الباشا هي من صور الإجماع لا محالة؛ وثمرة وجود الإجماع في هاتين الصورتين - إلى جانب سنده من النص أو القياس عليه - أن هذا السند قد يكون ظني الثبوت (كما هو الحال بالنسبة لأحاديث الآحاد ومعظم السنن منها كما هو معروف) وقد يكون ظني الدلالة (كما هو الشأن في النصوص المحتملة بظاهرها لأكثر من معنى واحد، وكما هو الشأن في القياس) وقد يكون ظني الثبوت والدلالة معاً (كما هو الشأن في بعض أحاديث الآحاد التي تحتمل بظاهرها أكثر من معنى واحد؛ أو التي يظهر بينها وبين نصوص أخرى من الكتاب أو السنة وجه تعارض) والإجماع حجة قاطعة؛ فإذا ما أقر في عصر من العصور حكماً مستنبطاً من النص نفسه أو مقيساً عليه أصبح هذا الحكم مما تحرم؟؟ مخالفته ولا يكون النص بعد ذلك محل اجتهاد، فلا يحل بعد ذلك لمسلم مخالفته بدعوى أن سند الإجماع محل اجتهاد، وإنما يحل في هذه الحالة قبل نعقاد الإجماع.
هذه هي ثمرة وجود الإجماع مع النص؛ فهو - إذا سلم معنا الباشا بحجيته وانعقاده في هذا الموضوع - مانع لمعاليه من التأويل فيما تأول فيه من النصوص بما يخالف ذلك الإجماع، ومانع للمسلمين كافة من الأخذ برأيه في ذلك إن هو أصر عليه بعد هذا البيان.
هذا ولا يفوتني أن أنبه هنا إلى ما هو الحق في نقطة أثارها الباشا في بحثه ومن شأنها أن توجب بعض اللبس على الناس في صحة انعقاد الإجماع على هذه المسألة، فقد قرر أن بعض المتطرفين قالوا بجواز التعدد إلى تسع وبعضهم إلى ثماني عشرة مستندين إلى تفسيرهم لعبارة (وثنى وثلاث ورباع) بما يوافق ذلك. والحق أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا القول بل كل ما نقل عنهم يفيد العكس أي أن الحكم الشرعي جواز التعدد إلى الأربع فحسب. فإجماعهم إذن لم يخرقه أحد، وقد قررت ذلك صراحة معظم كتب الحديث والتفسير فليرجع إليها من يشاء كما نقل هذا الإجماع عدة من الثقات في هذا الباب. أما مخالفة ذلك النفر ممن سلم الباشا بتطرفهم وسفه رأيهم؛ فهي - إن ثبتت - فلا يعتد بها من خرق الإجماع المذكور لأنهم وجدوا بعد انعقاد الإجماع على هذه المسألة