للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والطالب الأديب يقول إنه يرى في هذه القصة دليل الشجاعة ولا يرى فيها دليل العدل.

وليست الشجاعة والعدل نقيضين.

وإنما تعرف الصفات بالبواعث عليها، أو بالنيات كما قال النبي عليه السلام. فتكون الشجاعة على الظلم على قدر النفور منه وأنطباع النفس على الإنصاف.

ولو كان أبن الخطاب يقصد إلى الهجرة وكفى لما كانت به حاجة إلى هذا التحدي في حرم الكعبة.

ولكنه تحدي الظلم من فرط شعوره بالعدل.

وقد كان يشتد على المسلمين وهو مشرك، فليس من الإنصاف أن يتراجع عن المشركين وهو مسلم.

ولقد رأينا أن صديقه أبا بكر لم يستثره بكلمة حين أراد أن يستثيره لحرب الردة كانت أفعل في نفسه من قوله: أجباراً في الجاهلية وخوراً في الإسلام!.

فكانت شجاعته هنا منوطة بعدله، وكان عدله هو الذي أوجب عليه أن يقدم بعد إحجام، ولم يكن إحجامه لقلة الشجاعة فيه؛ بل أحجم حتى لمس موضع العدل في المعاملة، فأشفق أن يكون له ميزان في الجاهلية وميزان في الإسلام.

إن الشجاعة تصدر في النفس من بواعث كثيرة: تصدر من حب الأستعلاء فلا تبالي بظلم الضعفاء.

وتصدر من حب الإنصاف فلا تبالي بقوة الطغاة.

وتصدر من الطمع أو من السورة الحيوانية، أو من جهل العواقب، أو من غفلة الحس عن مواطن الخوف.

فأي هذه الشجاعات كانت شجاعة أبن الخطاب؟

إنها شجاعة الرجل المطبوع على العدل، والرجل الجريء على الظالمين، والرجل الذي يأبى أن يصيب مخطئاً وأن يسلم من المصاب ما أصيب غيره من المسلمين.

ولو لم يكن حب العدل مصدراً من مصادر تلك الشجاعة لكفاءة أن يهاجر، وأن يدخر شجاعته لمن يلقاه، حين يلقاه.

ولكنه تحدى المشركين؛ لأنه كان من قبل يتحدى المسلمين، وكان هذا التحدي هو

<<  <  ج:
ص:  >  >>