والبهاء السبكي. غير أننا لا نبالغ إذا قلنا أن هؤلاء لم يمثلوا العصر ولا ذوقه الأدبي ولا قواعده في النقد. أما الفريق الأخر فهم أدنا إلى هذا التمثيل وأقرب.
على أن النقد الأدبي - في الحق - كان أوسع نطاقاً مما وصفنا. وأكثر شغلاً للقوم مما رسمنا؛ إذ كانت له عوامل عدة أذكت ناره وأشعلت أواره وأكثر سماره ففضلاً عن حب البديع والتسابق إلى ابتكار التوريات والتضمينات، كانت هناك منافسات أدبية شديدة بين أدباء مصر وأدباء الشام، ومنافسات أخرى بين شاعر وشاعر، وكان من الناس من يتعصب لهذا أو يتحسم لذاك. وكانت هناك مباريات بين المتعاصرين من الشعراء ومساجلات ومعارضات. وكان كير من وجوه الناس وأعيان الرؤساء يضرى هذه المعارضات حتى ولو لم تكن بين المتعاصرين وكان بعض الملوك والرؤساء ذوي بصر بالشعر ومكانه. وكان بالشعراء ولوع بالتظمين فولجوا اليه كل باب حتى تهاووا إلى السرقة عمداً أو دون عمد. كل هذه الأمور ترينا أن النقد الأدبي قد وجد الأسباب فدق الأبواب وولج الأعتاب وعاش بين القوم في أخفض جناح وأخصب مراح.
ويضيق المقام إذا ذهبنا نعد الأمثال ونضربها. فلنكتف بالإشارة عن العبارة، وبالتلميح عن التصريح فنقول.
روي المقربزي في خططه أن الملك الأشرف خليلا عاد في عام ٦٩٠هـ من الشام بعد أن فتح عكا، فلقيته القاهرة برجالها في حفل عظيم، وتقدم ابن العنبري الشاعر فأنشد قصيدة قال في مطلعها:
زر والديك وقف على قبرهما ... فكأنني بك قد نقلت اليهما
فتطير الأشرف من هذا البيت ونهض قائماً حانقاً وهو يقول: ما وجد هذا شيئاً يقوله سوى هذا البيت!؟
وروى تاج الدين السبكي في طبقاته عن تاج الدين المراكشي، قال: دخلت عليه مرة وهو ينشد قول أبن تقي.
حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئاً وكان معانقي
أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على وساد خافق