للأقدار الرحيمة إسعاف حبيبها البائس بالثروة الموجودة فيستردها إلى ملكه؛ ولكنها انتقلت الآن من عش الحمام إلى غيل الأسد! فمن ذا الذي يستطيع الدنو من قصر الخلافة؟ لقد ضرب الدهر بينها وبين حبيبها إلى الأبد؛ فلا هو يستطيع الدخول إليها ولا هي تستطيع الخروج اليه؛ فكانه مات من دنياها وهي ماتت من دنياه. وبيت الخلافة من أمثالها قصر في الأول وقبر في الآخر!
- ٣ -
على أن الهوى كالسكر لا يعرف المحال ولا يحس الخوف ولا يبصر العاقبة فقد احتال سليمان حتى ظفر بثياب خادم من خدام جعفر بن يحيى. فكان يدخل قصر الرشيد في هذا الزي فلا يرتاب الحراس ولا ينكره الخدم. وعرف مقصورة بهيرة فكان يتسلل إليها في الظلام أو في الغفلة، فيقضي معها ساعة من النهار أو هزيعاً من الليل ينضحان فيه غرامهما المسعور بالحديث المعسول والقبل الندية.
وفي ذات ليلة اطفي عليهما الحب وعصفت برأسيهما الصبابة فتولدت فيهما ناشئة من الأمل والعزم. قال سليمان وهو يثبت نظره المتوقد في نظر بهيرة الساجي:
- لقد أعددت عدت الخلاص ومهدت لك سبيل الهرب
- وماذا أعددت يا سليمان؟
أعددت لك هذا الثوب الغلامي فالبسيه واخرجي تحت الليل حين تخشع الأصوات وتهجع العيون ولا يدخل ولا يخرج إلا رسل الأسرار بين قصور السادة والقادة. وساكون في انتظارك لدى مشروع القصب من دجلة
فقالت بهيرة ودمعها الساجم يتقاطر على خديها تقاطر الطل:
- أنسيت يا سليمان أني ملك الخليفة فلا اخرج منه إلا بالبيع أو بالعتق!
- لم أنسى يا بهيرة، ولكن الخلاص بغير ذلك محال
وكيف يصفو لنا العيش يا سليمان وهو شقاء متصل بمعصية الله وخيانة الخليفة؟
- بربك يا بهيرة اخفتي هذا الصوت في نفسك، وفكري قليلاً في بؤسي وبؤسك. ليس لي غيرك وليس لك غيري؛ أما الخليفة فله ألف جارية، وله إضعافهن إذا شاء. والله يا بهيرة يغفر الذنوب جميعاً