وقد نشأ أبو تمام في مصر ولكنه لم يذكر في شعره مصر ونيلها مع أنه كان يسقي ماء النيل بالجرة في المسجد الجامع بمصر. كذلك زار مصر المتنبي وقد ذكر النيل عرضا في شعره. وهو وأن لم يهتم بالقول في النيل إلا أنه لم ينج من أثر النيل في شعره؛ فإن أشعاره التي قالها في مصر هي أبدع وأروع مما ألفه قبل إقامته في مصر وبعدها. وأرجع الدكتور عدم اهتمام هؤلاء الشعراء بمعالجة موضوع نهر النيل إلى عدة أسباب، أهمها أن وصف الأنهار والبحار والغابات لم يكن من الموضوعات التي ألفها شعراؤنا، وأن الشعراء في أوائل العهد العربي لم يكونوا من المصريين، ولم يكثر ذكر النيل في الشعر العربي إلا بعد أن أصبحت العربية لسانا لأهل مصر ولغة أدبائهم. ومع ذلك فإن الشعراء المصريين كانوا في أول الأمر مقيدين بما ورثوه من تقاليد شعرية. ومما يلاحظ أن العصر الذي أخذ فيه الشعراء المصريون يعالجون موضوع نهر النيل كان الشعر قد أخذ ينحط كثيراً عما كان عليه في العصر العباسي الأول. وهم على كل حال كانوا يحسون بالنهر ويشعرون به فقالوا في التشوق إليه وفي وصفه وفي فيضانه والمقياس الذي يقاس به وفاء النيل وفي جزيرة الروضة ومنظر الفن في النهر وأيام اللهو على ضفته والرياض التي يجري وسطها وما إلى ذلك.
ثم انتقل الدكتور عوض إلى عصر النهضة الحديثة التي ازدهر فيها الأدب وأصبح شاعراً بوجود النيل إلى أن قال: إن شعراء مصر في عصرنا هذا قد يخصون النيل بأبيات أو مقطوعات أو إشارات، أما شوقي فقد جاراهم في هذا ولكنه بزهم بأن خص النيل بقصيدة من أروع قصائده تجمع بين الوصف الصادق والخيال المبتكر والنزعة الفلسفية والنظر إلى النيل ككائن مستقل لا كعرض من أعراض الحياة، وتجمع بين الوصف الشعري وبين حوادث التاريخ، وهي القصيدة التي أهداها شاعرنا إلى العالم المستشرق مرجليوث والتي يخاطب النهر في أولها بقوله:
من أي عهد القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تفدق
وقال الدكتور: بهذه القصيدة نستطيع أن نقف أمام شعراء الغرب الذين تناولوا هذا