الوحيد في هذا الباب وعليها المعول طوال هذه الحقبة حتى النهضة الأوروبية.
وإن الشطر الأكبر من المعارف التي رتبها ونظمها بقراط عن الطب مأخوذ ومقتبس من سائر الأمم أو اليونانيين السابقين عليه في الزمان، غير أن له فضل دراسة كل هذه المعارف ونقدها والوصول عن طريق النقد والبحث العلمي إلى معارف ومعلومات جديدة.
وقد كانت هذه هي الطريقة التي جرى عليها كثير من مواطنيه أمثال أفلاطون وأرسطو كلٌّ في بابه - فقد اقتبسوا من معارف الأمم التي سبقتهم أو التي عاصرتهم، واستفادوا منها، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، بل درسوا تلك المعارف، ونقدوها نقداً علمياً دقيقاً، وفرقوا بين أصولها وفروعها وغشها وسمينها ورتبوا استنتاجاتهم وبوَّبوها على خير وجه، ووضعوها في متناول طالبي العلم في العالم أجمع.
لقد خلص بقراط الطب من أجواء الهياكل والمعابد المشبعة بالأسرار والألغاز، وحرره من قيود الكنهة ورجال الدين، وأقامه على أسس العلوم الحيوية الصحيحة، وأرجع المرض والحياة لقوانين طبية ثابتة، وبرهن على أن الوصول إلى تلك القوانين الثابتة ممكن عن طريق دراسة الطبيعة دراسة دقيقة وافية، كما بين الروابط التي تربط العلة بالمعلول. وقد جعل أساس كل بحوثه الطبية الدرس والتجربة بعد أن وازنهما بالنظر والاستدلال والمنطق واهتدى بهديهما، ولاءم بين التجارب العملية والأمور النظرية، وقد وفُق في ذلك توفيقاً عظيماً.
يعتقد بقراط أن الإنسان جزء من الطبيعة والكون، وكما أن كل كائن حي في هذا الوجود مرتبط بالطبيعة طبقاً لقواعد مقررة وقوانين ثابتة، كذلك الإنسان فإنه خاضع لهذه القواعد والقوانين نفسها؛ والموازنة بين العوامل الطبيعية هي الصحة والحياة؛ وإن قُوى الفرد كلها تهدف لإيجاد هذا التوازن والتعادل.
وعندما يختل هذا التوازن لعل خارجة، تبادر جميع قُوى الفرد لدفع هذه العوامل الخارجية والعلل الضارة وإيجاد التوازن المطلوب وإقراره، وأن مهمة الطبيب مقصورة على خدمة طبيعة الفرد ومساعدتها في هذا المسعى الحيوي الذي تقوم به، ولذلك كان يسمى الطبيب بخادم الطبيعة.
وحيث أن تشريح الجثث الإنسانية كان غير مستطاع حينذاك وكان علم التشريح وعلم