هذا وتحريكه الفقراء على الأغنياء إنما كان بتحريض (ابن سبأ) والحديث كله كما قلت في حاجة إلى تمحيص. فقد غادر (أبو ذر) الشام في عام ٣٠ للهجرة، وترك (المدينة) في نفس السنة إلى الربذة حيث أقام بها إلى أن اختاره الله إلى جواره في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة أي قبل مجيء (ابن سبأ) إلى البصرة. ومعنى هذا أن مجيء (عبد الله بن سبأ) إلى الشام كان بعد وفاة (أبي ذر) وبعد خروجه من الشام بما يزيد على سنتين.
ثم إن صاحبنا (أبو ذر) لم يكن من أولئك الرجال البسطاء السذج الذين كانوا يستجيبون لدعوة رجل لا يعرف من أمره شيئاً، وقد رأيت أنه سبٌّ (كعب الأحبار) وقد كان أعلى من هذا النكرة (ابن سبأ) درجة وعلماً ومقاماً، وأقدم من أخيه في الدين إسلاماً، حينما تعرض لبحث في حضرة الخليفة الشهيد ورجل يقول لكعب الأحبار (يا أبن اليهودية ما أنت وما ههنا والله لتسمعن مني أو لأدخل عليك). أو (يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا). ثم لا يكتفي بذلك وهو في حضرة خليفة بل يرفع محجنه فيشبج ناصية كعب حتى يضطر الخليفة إلى استرضاء كعب والاعتذار منه. إن رجلاً مثل هذا لا يمكن أن يسلم نفسه إلى مسلم حديث العهد بالإسلام لم يعرف من أمره غير المشاغبة والتجول بين الأقطار. ثم يقنع بدعوته بمثل تلك السهولة التي لا تناسب مع ما عرف عنه من صلابة أبي ذر وشدة تمسكه برأيه.
وقد روي كثير من المؤرخين قصة (أبي ذر) بشكل آخر قالوا إنه كان يتلو قوله تعالى: (والذين يكنزوُنَ الذَّهبَ والفضَّةَ وَلا يُنفقونها فِي سبيل اللهِ فبشرهُمْ بِعذَاب أليم) وتعليقاته المعروفة الواردة في حديث (يزيد الفقعسي) أيام كان في المدينة، وقبل ذهابه إلى الشام كان يقول ذلك لما شاهد من الثراء الذي انهال على بني أمية وآل مروان، فضاق أغنياء المدينة به ذرعاً فنفي إلى الشام لعلمهم بأن (معاوية) رجل ذكيّ حليم يكفيهم هذا الرجل ويلهيه. فلما يئس منه ووجد أنه أصبح خطراً على أهل الشام أعاده إلى المدينة، ثم استقر بالربذة إلى أن وافاه الأجل في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة. والمعروف عنه أنه كان زاهداً وكان ينفق ما يصيبه من مال ويدعو إلى ذلك منذ أيام الرسول. فقصة (عبد الله بن سبأ) مع (أبي ذر) قصة موضوعة أعتقد أن واضعها هو (يزيد) أو (سيف) ولم يؤيدها رواة آخرون مثل (زيد بن وهب) وغيرهم ممن ذكروا سبب نفي أبي ذر.
ولم يتحدث (يزيد الفقعسي) صاحب أحاديث عبد الله ابن سبأ عن نشاط هذا الذمي في