ما فيها من أساليب العامة تعمل على ربط لغتنا بلغة أسلافنا، وتعين على فهم مدى تطور أساليبنا العامية فضلا عما تقدمه من الأدلة على سمو الروح الأدبية وأصالتها لدى شعراء العصر المذكور؛ فمن ذلك ما يلي:
نعلم أن بائعي (الكتاكيت) ينادون فيقولون: (يا ملاح الملاح). ويبدو أن هذا النداء كان معروفاً في عصر المماليك ومستعملا في نفس المعنى. وقد كان أحد نواب الشافعية، وهو بدر الدين الدميري محمد بن يوسف المتوفي عام ٨٨٧هـ، معروفاً بين الناس بِ (كتكوت) فاتخذ بعضهم ذلك وسيلة إلى مداعبته فقال فيه الشاعر علي بن برد بك مورياً بملاح الملاح وفيه دلالة على ما ذكرنا قال.
إن الدميري صديقي فلا ... أسمع فيه قول واش ولاح
ولا أرى كالغير تقبيحه ... بل هو عندي من ملاح الملاح
وقال محيي الدين بن عبد الظاهر:
يا رب كأس صرت من شربها ... من بعد رشفي ريق معشوقي
ملتهب الأحشاء ناراً لأن ... شربتها منه على الريق
وفي الشطر الأخير تعبير عامي، ويتضمن تورية لطيفة. فقد ورى بعبارته عن المعنى المقصود، وهو أنه شرب الكأس بعد رشف ريق معشوقه، وكان الريق أحلى وأجمل إطفاء لنار أحشائه من الكأس.
وقال جمال الدين بن نباتة في الشكوى:
قل عوني على الزمان فأصبح ... ت صبوراً على مراد الزمان
حابس اللفظ واليراع عن النا ... س فلا من يدي ولا من لساني
وفي الشطر الأخير عبارة عامية تدل على ضعف الحيلة، وفي البيت كله لف ونشر. وفيه اكتفاء.
وقال شمس الدين بن دانيال الموصلي يشكو حظه كذلك، ويذكر أنه باع حماره وعبده معا، فأصبح بذلك فقيراً لا يملك شروى نقير ولا قطمير. وفي بيته الثاني - مع الاكتفاء ومع اللف والنشر المرتب - مجانة يفطن لها الأديب. قال:
ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي