بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رئاسة الجمهورية، وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه، يشرح هذه الجريمة شرحاً يناسب مكانها في تاريخ الإجرام عامة وفي تاريخ الولايات المتحدة على التخصيص.
ولا تتم العبرة من تاريخ لنكولن إذا لم تكن نشأته وارتقاؤه إلى رئاسة الجمهورية، وحقائق مصرعه موضع اهتمام خاص يفوق كل اهتمام بغيرها من الموضوعات.
فقد كان لنكولن مديناً بتعليمه لأمه، ولولا هذه العناية من أمه لعاش ومات فلاحاً لا يسمع أحد باسمه في غير بلده الذي يعيش فيه.
وقد كانت هذه العناية وراثة من أعجب الوراثات، لأن أمه كانت من سلالة غير شرعية لفتاة بلغ من رغبتها في العلم - على خلاف عادة النساء والرجال في زمانها، أنها أقبلت على دروسها الخاصة فأحبت أستاذها واستسلمت له وتعرضت للمهانة في سبيله.
وكان لنكولن يعلم هذا ويتحدث به على دأبه من الصدق والصراحة، وكان يعزو إلى هذه السلالة كثيراً من خلائقه وميوله، ولاسيما الميل إلى المعرفة والاستزادة منها ولو لم تكن من لوازم عمله، كاقباله على تعلم الهندسة والفلك ودراسة شكسبير وبعض الآثار اليونانية، وهو محام لا يحتاج إلى هذه المعلومات.
وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية، لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح.
وعمل المصادفة في تواريخ العظماء يفتقر إلى توضيح هذه المواقف وتحليل أسبابها وملابساتها، لأننا نرى فيها عمل العظيم وعمل البيئة في توجيه أكبر الحوادث التي اشتغل بها التاريخ.
أما مقتله فلا يفهم على حقيقته من التاريخ الأمريكي إلا إذا عرف القاتل وعرفت دواعيه إلى اقتراف هذه الجريمة، وجملة ما يقال عنه أنه ممثل فاشل أراد أن يعوض فشله في أدواره المسرحية بهذا الدور من أدوار المغامرات المعهودة في تاريخ البلاد الأمريكية؛ ولولا عوارض شخصية في طبيعة هذا المفتون لما وقع الحادث على الإطلاق.
والذي يبدو للوهلة الأولى من كتابي الأستاذ الخفيف أنه موفق في تحقيق معلوماته وفي وزن أبطاله.