للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن شيئاً من ذلك لم يقع، ولكن نفسية الإنسان تغيرت تغيراً عظيماً. كان أمر الدين في الزمان الماضي - برغم جميع أدوائه وعيوبه الخلقية والاجتماعية - جداً غير هزل. وكان أمر الدين يعني كل واحد ويهمه كما تهم الحقائق والأمور الواقعة، وكان دونه في بعض الأحيان حجب من الترف والطبع والرسم وسوء المعرفة وقلة العلم فإذا ارتفعت هذه الحجب وتطرقت دعوة الدين إلى القلوب لم يحل دون التوبة وإصلاح الحال شيء.

أما الآن فقد أصبح الدين موضوعاً تاريخياً أو حديثاً علمياً بحتاً، وأصبح الحديث عنه في المجتمع العصري كالحديث عن كوكب المريخ وعجائبه وعن القطب الشمالي وأخباره لا يعود على المتحدث والمستمعين بضرر أو نفع ولا يطالبهم بعمل أو ترك ولا يمسهم في صميم مسائلهم ولا يعني الإنسان ولا يهمه في حياته إلا بقدار ما يتطرف بمعرفته ودراسته في بعض المجالس أو ما يحادث به أهله عند الحاجة أو ما يجلب به نفعاً ويدفعبه ضراً في مجتمع لا يزال يدين بالدين أو يحترمه فليس له إلا قيمته المادية المؤقته.

وأصبحت الحياة وتكاليفها جد الجد ولب اللباب وأصبحت مسائلها هم الشيخ ودروس الصبي وشغل الشاب، وأصبح الجهاد في سبيلها والنجاح في ميدانها، مقياس الفتنة والذكاء ومعيار الظرفة واللباقة ورمز المروءة والشهامة.

وهنا يقف الداعي الديني حائراً في أمره كيف يواجه هذه العقلية الهامدة والنفسية الباردة في سبيل الدين، أنه واجه العقول الثائرة على الدين فأخضعها ببراهنه، وشكوكا وريباً تمكنت من النفوس فسلها بحكمته وملأ القلب وطمأنينة ولكنه ههنا يجد نفسه في موقف غريب لم يعهده، فلا إنكار ولا جحود ولا إباء ولا استكبار، ولا عناد ولا اعتراض، ولا دليل ولا فلسفة ولكن حياد تام في مسألة الدين واستغناء عن كل ما يتصل بالآخرة، وإخلاء الأرض، ورضىً بالحياة الدنيا واطمئنان بها.

هنا يقف الداعي حائراً في أمره كيف يواجه هذه النفسية ومن أي باب يدخلها، إنه يجد حولها غشاء من حب الدنيا والمال فلا سبيل إليها ولا نفوذ فيها إلا بطريق الدنيا والمال، وأن سبيل الدين غير سبيل المال، وأن طريق الغيب غير طيق الحس والشهود، فماذا يصنع ومن أين يبدأ؟

إنه ألقى على القوم مواعظه ووجه إليهم خطابه وحكمته وأجلب عليهم بخيل العلم

<<  <  ج:
ص:  >  >>