وكأنما كانت هذه الواقعة فألا حسنا على البلاد، فامتدت سلطة الحكومة المصرية إلى سرس (جنوباً)، وزلز هذا الخبر التعايشي وجنوده، فأخذت تتداعى أركان الدولة المهدية، ويتقوض بناؤها حجراً بعد حجر
وقد سار الخديوي توفيق بنفسه بعد الواقعة في بعض معيته إلى توشكي، وهناك في هذه البلدة النوبية الواقعة على شاطئ الغربي للنيل، والتي لا تبعد عن عنيبة أكثر من عشرة أميال تقريباً، وقف الخديوي توفيق أمام قبر شهدائها. وفي نفسه عواطف متباينة، ومشاعر مختلفة. وأحاسيس متضاربة، يتأمل ما أظهره عساكره من شجاعة وإقدام، وما أبداه جنده من جرءة واستبسال وسرعان ما فاضت دموعه ترحما على هؤلاء الأبطال القتلى الذين بلغ عددهم في هذه الواقعة ستة وعشرين قتيلاً فقط. .!!
وفي الدر، وإبرايم، وتوشكي، وأبي سمبل عائلات من المماليك، بيض الوجوه، ضخام الجسوم، يختلفون اختلافاً واضحاً عن بقية الاهلين من النوبيين الأصليين، فلهم من المماليك نعرتهم، وحدتهم، واعتزازهم العجيب بأنفسهم، إلى حد يدفعك إلى العجب، ويوقعك أحياناً في الحيرة والارتباك، ويذكرك تواً بقصة التركي الذي فقد الحكم والسلطان، والصولة والصولجان، فلم يعدمه في مجموعة من القلل ملأها ماء، وجلس بها على قارعة الطريق، يأمر وينهي، ويتحكم دائماً في كل من ساقه حظه العاثر إلى الشرب منها!!. .
وهؤلاء يطلقون على أنفسهم لفظ (كشاف) والواحد منهم كاشف، وهم بقايا المماليك الذين فروا من مصر، عقب المذبحة المشهورة، مذبحة القلعة التي بيتها لهم محمد علي باشا سنة إحدى عشرة وثمانمائة وألف ميلادية - إلى مختلف بلدان الصعيد. ولما أرسل محمد علي باشا ابنه إبراهيم باشا لجمع الضرائب في الصعيد، طارد فلول المماليك، وهاجمهم في أوكارهم التي لجئوا إليها، فأوسعوا الخطا إلى الجنوب، واستقر ببعضهم المقام في بلاد النوبة، وطابت له فيها الإقامة، فألقى بها عصاه، وقرت فيها عينه، إذ وجد الجو خالياً، والأهلين في طبيعتهم الهدوء والطاعة.
وقد كان هؤلاء يحملون كثيراً من الجوهر والذهب، مما خف حمله وغلا ثمنه، وارتفعت قيمته، فأمكنهم أن يسيطروا على النواحي التي نزلوا بها في هذه البلاد بما معهم من أموال،