ثم جاء العهد الناصري، أي حكم الناصر محمد بن قلاوون الأخير الذي استمر حتى وفاته، وكان وزيره بالشام الأمير الكبير تنكز وهو الذي قيل في محاسنه:
إلا هل لليلات تقضت على الحمى ... تعود بوعد للسرور منجز
ليال إذا رام المبالغ وصفها ... لشبهها حسناً بأيام تتنكز
وهو الذي له المنشئات العظيمة بمصر ودمشق والقدس وبيروت، وله الأيادي البيضاء حتى مدينة ملاطية في الشمال حيث أراضي الجمهورية التركية. ففي عهد ولايته عمر السور القبلي بالقدس ورخم صدر المسجد الأقصى ومسجد سيدنا الخليل ابراهيم، وتم فتح شباكين بالمسجد الأقصى، وجدد تذهيب القبتين قبة الصخرة وقبة المسجد الأقصى. ويقول صاحب الأنس الجليل: ومن عجب أن تذهيب قبة الصخرة كان قبل العشرين والسبعمائة، وقد مضى عليه إلى عصرنا هذا أكثر من مائة وثمانين سنة وهو غاية الحسن والنورانية، ومن رآه قضى أن الصانع قد فرغ منه الآن.
ويطول بنا البحث إذا ذكرنا عمائر تنكز كلها في القدس فهي كثيرة متنوعة فيها بناء الأبواب والقنوات وأهمها إيصال المياه من بركة السلطان بظاهر القدس إلى المدينة وهو عمل هندسي عظيم، هذا غير أعمال الترميم في الأسوار والقلاع والحصون والأبراج.
وقد نقشت كل هذه الأعمال على الرخام والحجارة وعليها تاريخ عمارتها. لقد كان عصراً فذا لا يعادله في المعمار عصر من العصور.
ولما ولى السلطان برقوق العرش أراد أن يسير على غرار من تقدمه من ملوك بيت قلاوون فأخذ في عمارة بركة السلطان وأنشأ دكة المؤذنين تحت قبة الصخرة تجاه المحراب للمبلغين، ووقف الضياع التي كان يملكها بناحية نابلس على سماط سيدنا الخليل وشرط ألا يصرف ريعها إلا على السماط الكريم: وأخذ بسنة الملك الظاهر بيبرس فكتب نص الوقفية على باب مسجد الخليل إبراهيم كما كتب الظاهر ومن جاء بعده نصوص الأوقاف على أبواب المساجد فلم يغن ذلك شيئا بل نزعت الأملاك المرصودة لعمل الخير وتداولتها الأيدي، ولم تحمها القوانين الوضعية كأملاك مرصدة للمنفعة العامة فلا يصح تملكها أو وضع اليد عليها ولله في خلقه شئون.