يتعلق بالحياة، فهو لغز الوجود وسر الخالق! فالإنسان المكتشف المخترع لآلات وأجهزة بلغت من الدقة والإتقان شأوا بعيدا، هذا الإنسان عينه نراه في الوقت نفسه عاجزا تمام العجز عن خلق أدنى المخلوقات الحية!! خلق كائن مركب من خلية واحدة مثل (الأميبيا) أو (البكتريا) مع أنه يعرف (تحليلا) وبدقة تامة المواد والعناصر التي تتركب منها ولكنه يعجز (تمثيلا) عن أن يهبها الحياة!!
فلغز الحياة الإنسان بنفسه ككائن حي حير الفلاسفة من عهد سقراط إلى يومنا هذا، وهو ما حدا بسقراط أن يكثر من القول (أعرف نفسك) وهو بيت القصيد من فلسفته والمحور الذي تدور حوله رحاها. وهو هو الذي أعيا الخياموجعله يهرب من ميدان الجدل، ويحتمى بالطاس والكاس يغرق فيهما همومه وحيرته، ويستوحيها لمعرفة السر الرهيب! وهو ما أقلق راحة المعري حيرة وشكا إزاءهما في كروفر؛ فانظر إليه حين يقول:
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد
ومنها أيضا:
حار أمر الإله واختلف النا ... س فداع إلى ضلال وهاد
يقول هذا وربما يطمئن إلى ما يقول حينا فيعاوده الشك وتنتابه الحيرة أحيانا فيناقض نفسه بنفسه كما يذكر ذلك في شعره وتأملاته، ومن هنا كانت بليته وعذاب نفسه.
وقد روى عنه أنه كان (نباتياً) يعف عن اللحوم ويرى في أكلها قسوة من الإنسان على الحيوان؛ وربما كان سبب ذلك عقدة نفسية ومركب نقص مصدره إكبار الحياة في شخص الأحياء!! الحياة التي هزمه لغزها وأعياه سرها: فالإنسان يكبر - من حيث لا يشعر ولا يريد - ما يدق عنه وما يجهله والمجهول ما هو إلا خصم عنيد تغلب عليك وهزمك تكبره وإن كنت في الوقت نفسه تشعر نحوه بشيء من العداء!!
وقف العالم وأسرار الطبيعة في حيرة من أمرهما بسبب الجدل الدائم المحتدم بين المادتين المسمين أنفسهم بالواقعيين، وبين الروحانيين، وذلك من عهد سقراط إلى يومنا هذا.
وقد كان أكبر حجة للروحانية المثاليين عند الإغريق هو (أفلاطون) بلا شك. وكان يمجد الروح والعقل بقد ما كان يحتفل المادة ويحط من قيمتها. كان يؤمن بخلود الروح ويعتقد بأن الجسد ما هو إلا سجن وقيود وأصفاد تكبلها. والروح - كما يعتقدها - أزلية لا بداية