المصري يجب أن تكون العامية تثبيتاً للون المحلي وتحقيقاً لشرط الإمكانية. وكل ما يمكن أن يقولوه تأييداً لمذهبهم إن العامية لغة الأشخاص التي سايرتهم في كل سن، ولابستهم في كل ظرف، فعبرت عن خلجات نفوسهم ونبضات قلوبهم، وأنها حملت خلاصة تجاربهم وثمرات قرائحهم من لطيف الكنايات وبديع الأمثال وبليغ الحكم، وأنها مرآة لبيئتهم انعكست عليها صور حياتهم ومظاهر معيشتهم، وأنها أكمل دلالة وأسهل إبانة عن التصورات الجديدة التي تخرج من أعماق النفس أو تدخل في ثنايا الحوار. ذلك كلام وجيه لا غبار عليه ولا نكير فيه، وما يسوغ في رأينا أن ننقصه وقد قررناه من قبل. ولكن ليقولوا لنا متى طبق قانون الإمكانية بنصه على اللغة والأسلوب؟ إن الناس في كل زمان وفي كل مكان لا يتكلمون في الواقع كما يجعلونهم يتكلمون على المسرح. وهذه جميع المآسي ومعظم الملاهي قديمها وحديثها مكتوبة بالشعر الرصين، ذي اللفظ المنضد والأسلوب الفخم، فهل يزعمون أن أشخاصها كانوا في الحقيقة يتحاورون بالشعر ويتجادلون بالمجاز؟ أم يزعمون أن لغة راسين وشكسبير وهوجو وجوت وهي نموذج البلاغة للكتاب، وموضوع الدراسة للشباب، كانت لغة الشعب الذي كانوا يمثلونه أو يمثلون له؟ وإذا جاز لهم أن يجعلوا الفرنسيين والإنجليز يتكلمون على المسرح المصري بلسان عربي، فلم لا يجوز لنا كذلك أن نجعل خاصة المصريين بل عامتهم أيضاً يتكلمون بلهجة عربية فصحى، وهي أقرب إلى هؤلاء منها إلى أولئك؟ ليفرضوا أن العامية لغة أجنبية ننقلها إلى لغتنا العربية، وليغضوا على تلك القذاة الضئيلة ابتغاء رقي اللغة ونهضة الأدب وتعليم الشعب. إن الفن الحقيقي أبدى خالد، ومن المحال أن تخلده لغة جيل واحد، ولهجة قطر واحد، لأن العامية تتغير من جيل إلى جيل، وتختلف في قطر عنها في قطر. ونحن لا نريد أدباً مصرياً فحسب، وإنما نريد أدباً عربياً يمثل حضارة مصر وثقافة المصريين، وينقلهما إلى الأقطار النائية، والأجيال الآتية
على أن أحداً من الناس لم يقل بأن المسرح لابد أن يعرض الحقيقة جرداء عارية، بل المعروف أن من واجبه أن يحسنها بالخيال ويزينها بالكذب، وفي ذلك التحسين والتزيين سحره وجاذبيته، والمشاهد ذاهب إليه وفي نفسه أنه سيخدع، وهو راض بهذه الخديعة ما دام فيها لذته وفائدته، ومن قواعد المسرح أن الصدق يتوخى فيما يؤثر في الذهن والنفس