وُرق تغنت بتحنان رقين على ... عيدانها فاله في مغنى وغناء
ثم عاد إلى السرحة يذكر خطاب ظلها، وأحباب ناديها، وقد برئت قلوبهم في رحابها من الحقد، وخلصت من الشحناء، فليس يربطهم إلا الوداد، وليس يجمعهم إلا اللهو الذي لا مكر فيه، والمجون الذي لا ندم بعده. قال:
يا كرمها في سراه من أصاحبها ... لا ينطوون على حقد وشحناء
يداعبون بمعنى شعرهم فأروا ... رد الأحبة في ألفاظ أعداء
من كل شيخ مجون في شباب فتى ... يقري المجون بقلب غير نساء
يسعى إليها على جرداء جارية ... من آلها كهلال الأمن حدباء
ونلحظ في البيتين الثاني والثالث إحدى عادات المصريين في المداعبة والمماجنة. وهي عادة لا تزال ماثلة حتى اليوم وبخاصة بين العوام؛ ذلك أن يترامي الأصدقاء بالهجر من القول، والمنكور من اللفظ، وباللغو من الحديث، وبما يكون بين الأعداء من السباب، ويعدون ذلك دليلاً على عمق الود وتمكن الصفاء بين النفوس
ونلحظ كذلك أن الشاعر انتقل انتقالا لطيفاً إلى وصف السفينة التي يمتطي الأحباب المرتاضون متنها في أمانة النهر وحراسة تياره. وبث في الوصف الرقيق من التورية، والدقيق من التشبيه. وقد أنصف السفينة بتشبيهها بهلال الأمن لا بهلال الشك. فقد استسلم اللاهون فوقها للمجون استسلام المؤمنين للأقدار، في وداعة ورضا واطمئنان. ثم إن السفينة بعد ذلك قديمة العهد لأنها (نوحية الصنع)؛ ولعل الشاعر هنا ينعتها بالقدم ليثبت لها بيض الأيادي على العشاق والمحبين، وفضلها الكثير المتتابع على المجان واللاهين. فكثيراً ما حملتهم إلى غاياتهم، وحفظت الخفي من مكنوناتهم. وآدوا ظهرها، وأثقلوا منكبيها، وما اشتكت عناء، وما بكت إعياء. وهي بذلك تزهو على الجياد الغر، والعتاق الضمرة. ويبدو لنا أن زوارق النيل حينذاك وقد كانت في مقدمة وسائل الرياضة واللهو - كانت تتراءى في أثواب شتى ذات أشكال وألوان بديعة، فتتهادى بها تهادي العروس في جلوتها، والرود في زينتها. وهي بذلك تضفي على روادها جواً سابغاً من البهجة والأنس والانسجام. وقد كان مظهرها هذا معيناً للشاعر ابن مكانس على تشبيه السفينة بحمامة الروض، ونسبتها إلى العنقاء لما فيها من غريب البزة وعجيب الزينة، وفي هذا ما يدل على ما كان في