وإن هذه الفكرة التي هبطت عليك هبوط الوحي، ومثلت في ذهنك الخالي مثول الهرم في واحة ليس بها أنيس - لفكرة جليلة ما في ذلك ريب: فلقد ناجيت بها هذه الشمس التي ما تنفك تسبح في فلكها ما تستقر، وتدور حول العالم ما تعرف السكون، وتسعد بشروقها قوماً حين تشقى بغروبها آخرين، فإذا هم يعيشون على غير نور، أو يمشون في ضوء القمر المستمد من ضيائها، وهم يرتقبون طلعتها سافرة لا يسترها برقع، ووجهها براقاً لا يخفيه حجاب.
وناجيت بها السحب المتنقلة، والأمواج المتدفقة، والأعاصير المتلاحقة، إلى أين تسير، وعم تبحث، وماذا تروم؟
وناجيت بها الغبار الذي رأيته يتطاير، والزبد الذي شهدته يطفو، والليل الذي راقبته يدخل، وعينيك اللتين أبصرتها كل شيء، وروحك التي سبحت في الوجود، إلى أين الرحيل، وأيان السفر، وفيم الإسراع؟
فهل سمعت رداً، وهل تلقيت جواباً؟!. . .
٩ - (يا فلكا ما انفك يدور، والعالم بعده بلا نور!
يا سحباً وأمواجاً وأعاصير: نبئيني أين المصير؟
أيها الغبار والزبد والليل! يا عيني وروحي خبرين
إلى أين رحيلنا أجمعين؟ هلا تعلمين؟)
دعها أيها الشاعر إن كانت تعلم أو لا تعلم، فبحسبك أنك لا تشك لحظة في أن كل شيء مردود إلى خالقه، وأن الشمس ما شحب لونها ثم احمر وجهها ثم غاص شطرها إلا من هيبة ربها؛ وأن الليل ما أقبل، والنهار ما ارتحل، والأرواح ما بكت وتضرعت وشكت إلا لأنها تمشي بخطى واسعة نحو بارئها: فهو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي مد الظل، وهو الذي مرج البحر، وهو الذي سخر الشمس والقمر، وهو الذي جعل الحياة البشر خضماً يضطرب ويهدأ كهذا الخصم الذي تراه، ليمخر الناس عبابه فيصلوا إلى شاطئ السلامة.
ألا فلتطأطأ الرأس خشوعاً بين يدي ذي الجلال، فما أنت إلا سابح في موج كالجبال.