ومن ذلك الحين قرب الحرانيون من الخفاء ثم من بني بويه، وإن مدرسة حران كان لها الأثر الأكبر في الرياضيات وخاصة الهيئة، وأبناء موسى بن شاكر هؤلاء رباهم المأمون وأنشأهم في بيت الحكمة ببغداد. قال القفطي كان والدهم موسى بن شاكر يصحب المأمون والمأمون يرعى حقه في أولاده هؤلاء فقد مات وخلف هؤلاء الأولاد الثلاثة صغاراً فوصى بهم المأمون إسحق ابن إبراهيم المصعبي وأثبتهم مع يحيى بن منصور في بيت الحكمة، وكانت كتبه ترد من بلاد الروم إلى إسحق بأن يراعيهم ويوصيه بهم ويسأل عن أخبارهم حتى قال جعلني المأمون داية لأولاد موسى بن شاكر. وقد خرج هؤلاء نهاية في علومهم، وقال وهم ممن تناهي في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب، وقد أتعبوا نفوسهم فيها وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبدل السني، فأظهروا عجائب الحكمة. وكان الغالب عليهم من العلوم: الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم، وإذا عرفت تاريخ حياتهم علمت أن الفضل فيما آتوه من خدمة المدنية العربية وتغذيتها بالثقافات الأجنبية يعود لمن رباهم وأنشأهم، فاقتدوا بسيرته ذلك هو المأمون واضع قواعد النهضة العلمية ببغداد. وبعد فأنا إن استعرضنا كيف أن الخلفاء العباسيين أنفسهم كانوا المشجعين لأن تستفيد الحركة العلمية ممن جاؤوا بهم من العلماء لتغذيتها من مدرسة جنديسابور وحران بقى علينا أن نصغي لابن أبي أصيبعة يحدثنا كيف اتجه الرشيد إلى مدرسة الإسكندرية، قال في عيون الأنباء عند تحدثه عن مشاهير الأطباء في مصر أن الرشيد أهديت له جارية مصرية وكانت حسنة جميلة وكان الرشيد يحبها حباً شديداً فاعتلت علة عظيمة فعالجها الأطباء فلم تنتفع بشيء فقالوا ابعث إلى عاملك بمصر ليوجه إليك واحداً من أطباء مصر ليعالج الجارية، فأرسل له بليطيان بطريرك الإسكندرية فعالجها وشفيت فوهب له الرشيد أموالا كثيرة. وقد تقدم بعد بليطيان جماعة لخدمة أمراء العرب مثل سعيد بن نوفيل طبيب أحمد بن طولون ونسطاس في دولة الأخشيد وبقى مصدر آخر للثقافة العربية في صدر الدولة العباسية هو الثقافة الهندية، وقد حدثنا القفطي في أخبار الحكماء أن المنصور هو الذي فتح مجراه ليصب في مدرسة بغداد إذ نقل أن ابن الآدمي ذكر في زيجه الكبير المعروف بنظم العقد أنه قدم على أبي جعفر المنصور رجل ماهر في معرفة حركات النجوم وحسابها وسائر أعمال الفلك، وكان معه كتاب في ذلك