أصبح الأمل بعد هذا معقوداً بالكتاب الثاني - رسالة أضحوية في أمر المعاد -، فلندرسه لنرى قيمته في نظر ابن سينا، بعد ما أجمع الباحثون على صحة نسبته إليه.
والقرائن المحيطة بالكتاب تدل على أن ابن سينا صور فيه رأيه، وأبان معتقده:
أما أولا: فلأن ابن سينا وهو يتحدث في الإشارات عن البعث، أحال استكمال القول فيه على كتاب آخر فيه سعة من القول؛ والإشارات كما هو معلوم للباحثين يصور آراء ابن سينا التي يدين بها ويعتقدها، فإذا أحال فيه على كتاب كانت قيمة الكتاب المحول عليه، خصوصاً بالنسبة للبحث المشترك بين الكتابين، من قيمة الكتاب المحول فيه، وقد علمنا أنه نفض يده من الشفاء والنجاة ورسالة في المبدأ والمعاد، فلم يبق من الكتب التي تصلح أن تكون مرجعاً استوفى البحث واستكمله حتى يصلح للإحالة عليه إلا كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) وهاك نصه في الإشارات ط ليدن ص١٩٧ (ثم أبسط هذا، واستغن - وفي نسخة: واستعن - بما تجده في موضع آخر لنا).
وأما ثانياً: فلأن الغزالي قد استمد رأي ابن سينا في البعث من هذا الكتاب، والغزالي دارس متعمق، وقريب عهد بابن سينا وبكتبه، فهو أعرف بما يصور رأيه وبما لا يصوره واتهام الغزالي بأن خصومته لابن سينا من التعويل على رأيه فيه؛ يدفعه أن المدافعين عن ابن سينا ضد الغزالي أمثال ابن رشد - بأنه استقى معلماته عنها من مصادر لا تعبر عن وجهة نظر ابن سينا التي يدين بها.
وأما ثالثاً: فلأن الكتاب نفسه، ليس فيه شيء مطلقاً، يدل على أن لبن سينا لم يعبر فيه عن رأيه، ولم يصدر فيه عن معتقده؛ والأصل في الكتاب - متى صحت نسبته لصاحبه - أنه يصور رأيه، إلا إذا وجد من القرائن والدلائل ما يصرف عن ذلك.
وفضلاً عن هذا فالكتاب يتلخص في مرحلتين:
إحداهما: التعريف بكل الآراء التي قيلت في المسألة.
والثانية: نقد كل هذه الآراء، إلا رأياً واحداً استبقاه واستصفاه، وساق على صحته كثيراً من الأدلة. ويحس قارئ الكتاب أن ابن سينا أفرغ في هاتين المرحلتين كل قواه، فلم يدخر جهداً في هدم ما هدم، ولم يدخر وسعاً في تأييد ما أيد.
وعملية النفي والإثبات على هذا النحو من التتبع والتقصي ناطقة بأنها المنهج الصحيح