وأرجو ألا أثقل على أستاذنا العلامة حين أقول له إني لا زلت أخاصمه في هذا، وإني لا زلت كل ما أصاب لنكولن من فوز إلى شخصيته، فما أعرف في العصاميين رجلاً مثله اتكأ على نفسه في جميع أطوار حياته، وما أعرف مثله من كانت الظروف كلها عدوة. وكيف لعمري تصعد المصادفات بنجار ابن نجار إلى رياسة الجمهورية، وكان في هذه الجمهورية آلاف النجارين غيره؟ ذلك ما لا أستطيع أن أحمل خيالي على تصوره، أن هذا الرجل الذي بات يحزم متاعه بيده آخر ليلة قبل سفره إلى العاصمة ليجلس فوق كرسي واشنطون قد بنى نفسه بنفسه. وأنا لنرى اعتماده على نفسه واضحاً في كل أطوار سيرته حتى في هذا العمل الذي يبدو هيناً في ذاته وهو عظيم في معناه، فقد سهر الرئيس ابراهام لنكولن يملأ حقائبه بيده ويحزم متاعه دون معونة من أحد!
إني أفهم أن تأتي المصادفة لخامل أو لدعي بشيء من اليسار أو الفوز مرة أو أكثر من مرة، كما أفهم أن تحول المصادفة بين ذي جدارة وبين ما يريد مرة أو أكثر من مرة؛ ولكني لا أستطيع أن أرد ما يبلغه العظيم الحق من مكانه أو ما يصيبه من فوز إلى المصادفة، وإلا فما معنى عظمته، وما معنى العظمة الفردية على الإطلاق؟ أن هذا يقتضينا أن ننكر عنصر الاستعداد الفردي، أو ما نسميه العظمة الشخصية، ونجعل تأريخ البشرية سلسة أو سلاسل من المصادفات لا ندري كيف تجري مجراها. ألا أن الرجل العظيم نفسه لهو المصادفة، فما هو إلا أن يتطلب عصره وجوده ويتهيأ لاستقباله حتى يستعلن السر وتشمل العصر كله، وتسيطر عليه روح الرجل العظيم، وهذا وحده الذي يفسر بوزه وسيطرته على غيره من الناس.
وما كان لنكولن بدعاً من العظماء، فمنذ اشتغاله بالسياسة اقترن اسمه بالمشكلة الكبرى التي شغلت بلاده، ألا وهي مشكلة الرق، ثم ما زالت آراؤه في هذه المشكلة تتضح وتتسع دائرتها حتى أشتهر أمرها. وأن له المقدرة في الخطابة تسلكه في أفذاذ هذا الفن من الموهوبين؛ واغتدى لنكولن أحد رجال الحزب الجمهوري المعدودين، وكانت الغلبة لهذا الحزب لأسباب كثيرة أهمها حسن سياسته في مشكلة الرق، ولقد اشتغل بالسياسة واهتم بمشكلة الرق غير لنكولن من كبار الجمهوريين، ومع ذلك أخذ صيته، وهو المحامي الفقير الذي لا جاه له يعظم يوماً بعد يوم حتى أغرقهم جميعاً؛ وما لمصادفة من أثر قط في هذا،