ولقد ظهر انكباب العامة على العارفين في حلقات السماع، حيث كان لكل متصوف مجالس إنشاد تقام في أوقات معينة، فما يحين ميعادها حتى تتدافع عليه الناس من كل حدب وصوب، وطبيعي أن يكون المنشد ويسمى (بالقوال) حسن الصوت، لطيف الذوق، فيختار من الأبيات الرقيقة ما تطرب له المشاعر وتهيج به القلوب، حتى كان بعضهم يصيح من وجده، وأحياناً تأخذه النشوة، فيهيم على وجهه في الأفاق كأنما نشط من عقال.
إن للصوت الجميل أثره البالغ في الإحساس، فما ظنك إذا اقترن بمعنى سماوي رائع، ثم سمعه صب ذواق يدرك ما يهدف إليه تمالم الإدراك؟ أليس من القليل عليه أن يترنح ذات اليمين وذات الشمال كمن دارت برأسه العقار.
وقد يرق شعور المتصوف فيسمو إلى مالا تحيط به عين، وإذ ذاك يقف في مكانه لا ينطق بشيء. وليس ذلك في مجلس السماع فحسب، بل في كل موقف تهطل فيه سحائب الرحمة، فقد وقف أبو بكر الشبلي على عرفات مدة طويلة فلم تتحرك شفتاه بشيء، وللحجاج حوله ضجيج وعجيج، فهل يكون هؤلاء أكثر رغبة منه إلى الله؟ أم أنه شاهد ما خفي عن غيره فعقد الموقف لسانه، ورجع إلى مقره شارد العقل متقد الضلوع.
إن كثيراً من المتصوفين يتخيلون أنفسهم تحلق في عالم آخر وتشاهد أضواء متألقة لا تتاح لأحد. وقد سئل بعضهم في ذلك فقال: والله لو غاب عني لحظة لتقطعت (وهم يجزمون أن العارف الصادق يصبر عن كل شيء عدا رؤية مولاه. وقد وقف رجل على الشبلي رحمه الله فقال له أي الصبر أشد على الصابرين؟ فقال الصبر لله! فقال الرجل: لا. فقال الشبلي: الصبر مع الله، فقال الرجل لا، فغضب أبو بكر وقال: ويحك فأي شيء إذن؟ فقال الرجل: بل الصبر عن الله عز وجل. فصرخ الشبلي صرخة كادت تتلف روحه، وكأنه رأى صاحبه قد سبقه في الطريق فعنف نفسه أحر تعنيف وأقساه!!.
وكثير منهم من يذرف الدموع الغزار حين يخطر بباله أنه غير أهل لمحبة ربه. كيف وقد وقر في نفوسهم أن ما على الأرض من حيوان ونبات وجماد يسابقهم مسابقة شديدة في الافتتان بخالقه، فهم يتنافسون فيما بينهم منافسة حادة تضطرم فيها الأحشاء. ولهم في هذا الصدد نوادر غريبة، فقد حكى سهل ابن عبد الله أنه قابل دباً في فلاة فحادثه وناقشه!! وعلم منه أنه - مع فريق من الوحش - هائم في ذكر ربه!! فما منشأ هذه النادرة؟ وهل