وطالت السهرة، وكان المدعوون كثيرين جدا من مختلف القرى المجاورة، وكان لدى بعضهم مطايا، والبعض بدون مطايا وكانت مطايانا عادت إلى البلدة.
وبعد انتصاف الليل أراد ابن عمة والدي أن يعود إلى بلدنا، فقال أبي لننتظر حتى الصباح إلى أن تيسر لنا مركب. فقال الحاج لوالدي: إن الوقت صيف، وإذا عدنا سائرين على أقدامنالم نشعر بتعب فالجو جميل جداً. . .
ولم يستطع والدي إقناعه بالعدول عن الرجوع في تلك الساعة. وسرنا، ولكن بعد خروجنا من القرية قال والدي:(أمرنا الله. . . من استخف عقله تعبته رجليه!)
وكان على بعد ثلاثة كيلومترات أو أقل من بلدنا، (وأبور مياه) مهجورة، وعلى بعد منه مقبرة للمسيحيين. والجسر مرتفع، وأراضي منخفضة على كلا الجانبين انخفاضا يبعث في النفوس شيئا من الرهبة، وكان أعواد الذرة في كل مكان مرتفعة بين الأشجار البعيدة، والدنيا ساكنة. . .
فلما اقتربنا من ذلك (الوابور)، وكان القمر بدار تقريبا، وكان الوقت حوالي الساعة الثالثة صباحا، رأينا امرأة قميئة متشحمه بالسواد تصعد من بين الحقول إلى الجسر، وتتجه إلينا من بعيد، وكانت تلف وجهها، وتضع على رأسها (طشتا) كبيرا جدا من النحاس، لا يتناسب مع حجم جسمها الصغير
وقابلتنا وهي ما زالت تخفي وجهها، ولكني لاحظت أن والدي لم ينقطع عن قراءة القران منذ لمحها. ولما مرت بنا ومررنا بها سمعناها تقول نفس الكلمة التي قالها والدي عند خروجنا من تلك القرية:(من استخف عقله تعبته رجله!)
وأراد الحاج أن يقف ليخاطبها وهو يصيح: ماذا تقولين يا ست؟ ماذا تقولين؟
ولكن والدي جذبه، وهو ما زال يقرأ القرآن بصوت مسموع، وقال الحاج: أنها حماة (مبيض النحاس) في البلدة
فقال والدي: وما الذي يأتي بها إلى هنا في هذه الساعة، وفي ذلك المكان بالذات؟ يا شيخ، أسرع بنا!