الإنساني. وقد تكون الأسطورة تافهة لا تهدف إلى غرض، ولعل واضعها أبله غر نطق بها كما اتفق له، ولكنهم يكدحون أذهانهم في التحليل والاستنتاج حتى يظفروا بما يريدون، أما الذهن العربي الحديث فقد احتقر هذه الأساطير احتقارا تاما، ورمى قائلها وسامعها معا بالجنون والغفلة، وأنا لا أدري لماذا لا نجعلها من قبيل الأمثال الفرضية الذائعة في الأدب الجاهلي، فنسلم أولا بوضعها، ثم ندلف إلى استنتاج العبرة من حوادثها كما يفعل الأوربيون سواءبسواء؟. .
وعلى أن اكثر هذه الأساطير تهدف إلى الشجاعة والمروءة وما إليهما من الشمائل التي تشربها البدوي، وسرت في عروقه مع الدم في مجرى واحد، فكان علينا أن نجعل منها أداة صالحة للتهذيب والتعليم فتضم إلى غرابة المنحى وطرافة التفكير، روعة المغزى وجمال الهدف، وإليك هذا المثال مع الإيجاز.
خرج عبيد بن الأبرص إلى الصحراء في نفر من صحبه فسد عليهم الطريق شجاع أسود قد فتح فمه فتدلت مشافره كالبعير، وكان غريب الخلقة ترمى عيناه بالشرر حتى ما يطيق أحد ان ينظر إليه، وقد احترق جانباه من الرمضاء فاصطبغا بلون مرعب، فصاح القوم بعبيد: دونك هذا الجني فاقتله، ولكن الشاعر عمد إلى إداوة من ماء فصبها عليه، فانفتل إلى حجره شاكرا قانعا، ثم سار القوم فقضوا حوائجهم وقفلوا راجعين، غير أن عبيدا قد أضل بعيره، فسدت السبل في وجهه وداهمه الليل بكلكله الثقيل، فوقف متحيرالا يدري ما يصنع في ظلام البيداء إذا بهاتف من عدوة الوادي يصيح
يا صاحب البكر المضل مركبه ... دونك هذا البكر منا فاركبه
فالتفت الرجل فإذا بكره بجانبه، ومعه بكر آخر يرشده إلى الطريق، فركب والخواطر تملأ فؤاده ورأسه، إذ يفكر في صاحب هذه اليد البيضاء، من هو؟ وكيف اختصه بالرعاية؟ ولكن الهاتف لا يتركه يمعن في شعاب أوهامه بل يصيح:
أنا الشجاع الذي ألفيته رمضاء ... في رمله ذات دكداك وأعقاد
فالخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أقبح ما أوعيت من زاد
فعلم الشاعر أن الجميل قد رد إليه وأوفاه، فأخذ السير إلى مقصده في فرح وابتهاج!!
فماذا تقول عن هذه الأسطورة؟ إننا نتعب أنفسنا في إنكار وقوعها، كأنه - وهو الواضح