للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم تحسد الإنس الطعاما

لقد فضلتمو بالأكل عنا ... ولكن ذاك يعقبكم سقاماً

وقد ابتلى تأبط شراً بمن كذب دعواه، فزعم أنه نزل بشعب وادي الجن فرأى وجوها صباحاً وسُما، فنحر لهم مطيته ليأكلوا من طيباتها المشتهاة ذلك هو جذع بن سنان الفساني إذ يقول.

نزلت بشعب وادي الجن لما ... رأيت الليل قد نشر الجناحا

أتوني سافرين فقلت أهلا ... رأيت وجوهكم وسُما صباحاً

نحرت لهم وقلت ألا هلموا ... كلوا مما طهيت لكم سماحاً

وقد لا يكتفي الصعلوك بأن يفخر بنفسه بل يتعدى ذلك إلى قبيلته، فيزعم أنها حاربت الجن، فانتصرت انتصاراً رفعها إلى ذروة عالية من المجد. قال أحد الأفاكين من بني سهم: ذهب جني يطوف بالبيت فعرض له شاب من بني سهم فقتله، فثارت بمكة غبرة لم تبصر لها الجبال - وإنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن - فأصبح من بني سهم على فرشهم موتى كثير من قبل الجن، فكان فيهم سبعون سيخاموي الشباب، فنهضت بنو سهم وحلفائها إلى الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا خنفساء، ولا شيئاً من الهوام يدب على الأرض إلا قتله وأقاموا على ذلك ثلاثا، فسمع في الليلة الثالثة هاتف يهتف بصوت جهوري، يا معشر قريش اعذرونا من بني سهم فقد قتلوا منا أضعاف من قتلنا منهم فأصلحوا ما بيننا، ففعلت ذلك قريش، وسميت بنو سهم (قتلة الجن).

وكثير من مسطري هذه الأخبار - في القديم - من يملأ بها الصحائف دون أن يلفت الأنظار إلى مبلغها من الافتراء وكأنه يرى من الأمانة العلمية أن يذكرها كما تلقفها من الأفواه، أو نقلها عن الأسفار بدون تعليق يضع الحق في نصابه، بل لعله يتصب لها تعصباً يترك القارئ في شك من أمره، ولكن الحق لا يعدم أنصاره في كل زمان ومكان، فكما وجد جماعة من الفقهاء ينشيعون لهذه الأساطير، فقد وجد منهم آخرون يفتدونها أتم تفنيد، قال ابن حزم عن الجن: (ومن ادعى أنه يراهم أو رآهم بالفعل فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء) وقال أبو إسحاق المتكلم فيما رواه عنه الجاحظ (وأصل هذه الفكرة أن القوم تأثروا بوحشة بلادهم، ومن أقام بالصحراء منفرداً استوحش وابتلى بالوسوسة، وتمثل له الشيء

<<  <  ج:
ص:  >  >>