الاتحاد بالله الذي يتجلى في مختلف أجزاء الوجود شاغلهم الشاغل؛ فانصرفت كل مشاعرهم وأعمالهم إلى العثور عن هذه الوحدة لأنهم لن يجدوا الراحة أو الأمن أو السلام، ولن يذهب عنهم الخوف والقلق والاضطراب والشك والحزن، ما لم يدركوا فكرة اتحاد الكون التي يتطلب وعياً صادقاً حياة فكرية منعزلة طاهرة، لا تؤثر فيها مشاغل الحياة.
فاختار زهاد الهنود أماكن نائية عن صخب الحياة الاجتماعية ومغريات مفاتنها، وتبدو فيها الطبيعة على قسط كبير من العظمة والجمال، حتى تبهر الفكر، وتغريه بهجرة الحياة، والتحرر من حدودها المادية الضيقة، والتخلص من ضروراتها الزائفة؛ وحتى تنبسط في ربوعها الروح، وتتلمس في كنف روعة الطبيعة وجمال تناسق أجزائها مكانتها في الوجود.
ولم يجد الهنود مكاناً أفضل من غابات الهند الطويلة العريضة التي توفر الاعتكاف على النجاة من مفاسد الحياة وتتحلى بجمال رائع متناسق؛ فلجئوا إليها يمقتون ذاتهم، وحولها إلى معابد متنقلة يأوي إليها الزهاد والحكماء، يستوحون من عظمتها وجمالها حقيقة الوجود الأولى، وينشدون من عزلتهم حبس جهودهم على الفوز بأكمل مراتب الحياة الروحية.
فهيأت العزلة الفكرية للهنود فرصا للغوص في عوالم من المعاني الروحية أنارت نفوسهم، وكشفت لهم عن مثل إنسانية، ومبادئ أخلاقية وقيم دينية، ودفعتهم إلى سلوك طرق فاضلة، وإتباع نُهج طاهرة، بينت للبشرية أن الهند بروحيتها أفادت الفكر الإنساني، وأضفت عليه قبساً من النور السماوي، وأضافت إلى الحضارات حضارة تسمو عليها جميعاً في الروحية، وهذا كسب عظيم للإنسانية يشرف الهند. إلا أن الهند يجريها الحثيث وراء الروح أهملت الحياة الأرضية إهمالا معيباً جعلها لم تبال بتنمية مواهبها الفكرية، أو إنضاج استعداداتها الفنية، لكي تكتسب ملكات عقلية ومهارات صناعية، تظهر بها تفوقها في ساحات السياسة والاقتصاد والحرب، وهي دعائم السيادة الحديثة. فلم تعتن بالعلوم التي هي أساس كل تقدم مادي أو نفوذ سياسي أو سطوة حربية، فنشأ الشعب الهندي غير متمرن على أساليب الحرب، لا يتقن وضع خطط الدفاع والهجوم فاستولى الطغاة على بلاده، واستعمروا وطنه. وشب غير مدرب على الفنون الاقتصادية، جاهلا السبل العبقرية في جمع المال بعيداً عن جبل السياسة الملتوية؛ فخدعه المستعمر، واستغل موارده الطبيعية لمصلحته الخاصة من دون الهند صاحبة الحق الأول في الاستفادة من هذه الموارد.