وأسرع إلى وداو في مصر به ... قلباً على نار البعاد مقلباً
لله ذاك السفح والوادي الذي ... ما زال روض الأنس فيه مخصباً
أنعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسباً
أرض رضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا
يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشاً طيباً
على هذا الضرب من الغزل الواله والشوق الباكي، يتارع ابن حجة أبياته تلك، وله أبيات أخرى كثيرة على غرارها.
ويبدو أن حماة كانت قمينة بهوى حبيبها وغرام نجيبها. فهي - فضلا عن أنها محل ميلاده ومجتمع أو طار فؤاده - قد شهد لها التاريخ بعراقة في المجد وأصالة في السؤدد وبسطت لها الأيام من البلهنية بساطاً، ونشرت لها من النعيم بندا. إذ كانت عاصمة إمارة صغيرة، اعتلى عرشها أمراء من الأيوبيين، منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، وهم الملك المظفر تقي الدين عمر، ثم سلالته من بعده. وتحولت في العصر المملوكي إلى نيابة من نيابات المملكة المصرية، توالى على امرأتها أمراء من قبل سلطان مصر، فكان منهم أبو الفداء إسماعيل المعروف بالملك المؤيد، وهو من سلالة المظفر. أنابه الناصر بن قلاوون سلطان مصر، عنه في حكم حماة، وكرمه بأن خلع عليه ألقاب الملك، دون سائر نواب السلطنة.
وتقع هذه المدينة في شمال سوريا، بين حمص والمعرة. ويجري في وسطها نهر العاصي. وكان بها كثير من النواعير، تستنبط بها المياه من الآبار. وكثير من الطواحين المائية، وكانت تجعلها البساتين المتعددة. ونبت من ناشئتها عديد من الأدباء والفضلاء. وفي العصر الحديث تطامن بنيانها وتناقص عمرانها.
أما في عصر ملكها المؤيد أبي الفداء إسماعيل، فقد كانت مدينة زاهرة، وعاصمة ناضرة. تضرب من حولها الوديان وتمتد القيعان، وتكثف الغابات حيث يتخذ الوحش له مراحاً، والطير الجارح مسرحاً. ويحلو في جنباتها الصيد والقنص، ويصفو بين دوحاتها اللهو والسمر. وقد استطاع المؤيد أن يجعل منها جنة نعيم، ومنتدى علم، ومجتنى أدب. فقد كان عالماً وأديباً وجواداً سخياً. ولهذا طاف به العلماء والأدباء يطرقون بابه ويرجون جنابه ويستمطرون سحابه. فأعاد ببذله وفضله عهد الامتياح والسماح، وزمن الاجتداء والعطاء،