مخللاً بمائه وخله، وتحلق الأولاد حلقة، وأخرج كل رغيفه، وكان قد أحضره معه في الصباح تحت إبطه، وضربوا بأيديهم في الماجورين وأكلوا هنيئاً مريئاً - وقد رحمني الله من تمثيل هذا الفصل إذ كان بيتنا بجوار الكتاب أستطيع أن آكل فيه وأعود - وبين هؤلاء المريض والقذر ومن تلوثت يداه بالحبر.
لا تعجبن من هالك كيف توى ... بل فاعجبن من سالم كيف نجا
كان (سيدنا) غريب الأطوار عرف في الحي باسم الشيخ سيد المجذوب، يلبس المرقع من الثياب فلم أره يوماً لبس (مركوباً) جديداً ولا عمة نظيفة ولا قباء ولا عباءة جديدين، فكأنه كان يتحرى القديم من كل شيء ويشتريه، كان يتزهد في أكله ولبسه وحديثه، ويهزأ بالناس ولا يعيرهم التفاتاً. فهو يمشي مسرعاً مشياً يشبه الجري، ويأكل في الشارع وهو على هذه الحال، وإذا ناداه منادٍ لا يلتفت إليه، فكان بذلك يلفت أنظار الناس والأطفال، ويعجب منه بعضهم، ويتبرك به بعضهم، وكان في المجالس العامة غريباً ينتحي ناحية وحده ويفر من الناس ويستوحش منهم، وفي مجالسه الخاصة واعياً أنيساً لطيفاً.
لم أره يقرأ في كتاب، وما أظنه كان يعرف ذلك، ولكني مع هذا اذكر له حادثة حيرتني حقاً - فقد خرجت من كتابه، وأتممت التعليم في مدرسة ابتدائية، ثم قطعت مرحلة بعدها في التعليم - ثم ذهبت إلى مدرسة القضاء ومكثت فيها نحو أربع سنوات، ثم لقيت سيدنا في الطريق فسلمت عليه في احترام وإجلال اعترافاً بفضله عليّ في أول مراحل التعليم، ولكني أطوي بين جنبي إدلالاً بنفسي عليه، فأين هو الآن مني؟
لقد درست طبيعة وكيمياء، ودرست رياضة نظرية واسعة من حساب مثلثات وتوافيق وتراتيب ولوغارتمات، ودرست علوماً دينية مختلفة الأشكال والأنواع، وعلوماً مدنية من تاريخ وأصول قوانين ونظام إدارة وما إلى ذلك - فأين سيدنا من هذا كله فهو لا حظ له من علم إلا أن يحفظ القرآن، ولكن ما أدهشني حقاً أنه أخذ يسألني عن حالي وجرى من ذلك إلى الإدلاء برأيه في العالم وفلسفة الكون عن طريق صوفي، فإذا أنا أسير معه ملتذاً من حديثه معجباً بقوله إعجاباً يفوق ما كنت أضمره لأساتذتي في المدارس العالية، وإذا أنا أذهب معه حيث يذهب وأجلس معه حيث يجلس حتى أتم حديثه الممتع اللذيذ في ساعتين أو أكثر، ولوددت أنه طال أكثر مما كان - لست أذكر الآن حديثه وقوله، ولا أذكر ماذا