ما يمكن أن يقع على الهندي من عذاب واضطهاد، نظير عصيانه هذا الذي لا يرضى عنه المستعمر، بل يغضبه. وكذلك يجب ألا يبالي الهندي بما قد ينزل به من ألم، بأن إهانة المستعمر أو سبه، يجب عليه أن يتحمل ذلك بصبر وأناة، ولا يثور أو يقابل الإهانة بالإهانة والسب بالسب، ويسامحه. وإن أرادت السلطات الحاكمة أن تقبض عليه وتدفع به إلى السجن، يجب أن يسلم نفسه من غير مقاومة، غير مهتم بما سوف يذوقه من تنكيل في الغد. وإن جلد بوحشية، وركل بالأرجل، وصفع بالأكف، يجب أن يظل ثابتاً على سكينته غير آبه بما يقع عليه من ضروب القسوة المهينة. وإن أرهب بالقتل، وهدد بالموت، يجب أن يتمسك برابطة اليأس، ولا يجزع من فقدان حياته، ويرحب بالتضحية بها في سبيل الغاية السامية، ولا يلجأ مطلقاً إلى العنف، بأن العفو أشرف من الانتقام فلا يجب أن يقابل عنف الخصم بالعنف وإنما يواجه بنور الحب الذي يسطع من إيمانه بحقه وتفانيه في الدفاع عنه، ويتبع من آلامه التي احتملها طواعية فإن عدم العنف لا يدل على ضعف أو خوف أو استسلام للمسيء وإنما يدل على رضاء النفس بالعذاب في سبيل الحق الوطني، ورغبتها في مقاومة المستعمر بقوة الروح للحصول على الاستقلال.
وبالرغم من دقة هذا الاحتياطات، وجمال هذه التعليمات، فلم يخل عصيان من عنف، وذلك لأن الشرطة كانت كثيراً ما تتحرش بالشعب وتستفزه، وسريعاً ما تنقلب سلمية العصيان إلى همجية بربرية وفوضى بهيمية يطلق فيها الرصاص، وتراق الدماء، وتشعل الحرائق، وتنهب البيوت والمحال التجارية، وتتحطم المرافق العامة. وكل هذا كان يؤلم غاندي ويغضبه أشد الغضب، وحاول أول الأمر أن يمهد للعصيان المدني السلمي الشامل بتمرين الهنود على اللاتعاون مع الإنجليز، ومقاطعتهم سياسياً واقتصادياً وثقافياً، حتى يدركوا كنه العصيان السلمي، ويتشربوا بمبادئه. ولكنه وجد أن من العسير أن يتحقق عصيان بدون عنف، ولذلك فضل عليه اللاتعاون الذي لا يتخلله أي شغب أو اضطراب.
واللاتعاون هو سلاح المقاومة السلبية الثاني، قصد به غاندي مقاطعة الغرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً من ناحية، وتقوية روح الهنود المعنوية ورفع مستوى المعيشة وترقية الحياة العامة عن طريق استغلال مقدمات الهند القديمة لصالح البلاد من ناحية أخرى. ولجأ إليه بعد أن بلغت حماسة الهنود الوطنية حد الانفجار، فأراد أن يخفف من شدة هذه الحماسة