فأسقط في أيديهم، وحاروا في أمرهم ولم يدروا كيف يعملون، وأيقنوا أن محمداً سينتقم منهم ولبثوا ينتظرون قضاء الله فيهم، وقد رجع كيدهم إلى نحورهم وعادت سهامهم إلى صدورهم. . . ودارت عليهم الدوائر. . .
وصل الرسول المسجد، ولبث ينتظر أصحابه فما عتم أن رآهم مقبلين من بابا المسجد وقد تشوفت نفوسهم لمعرفة الأمر الذي حدا به إلى مغادرة المجلس في العالية والقدوم سريعاً إلى المدينة. فلما أنباهم الخبر، وأفهمهم نوايا اليهود، احمرَّت منهم الأحداق وثارت منهم الحفائظ، وغلت صدورهم كالمراجل من الغيض. . . ولما رأى الرسول ما بنفوس أصحابه من الثورة والسخط نظر إلى (محمد بن مسلمة) قال له: (اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: رسول الله أرسلني إليكم، أن اخرجوا من بلادي فلا تساكنوني بها. . . لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم. . . بما هممتم به من الغدر بي. . . لقد أجلتكم عشراً فمن رأى بعد ذلك ضربت عنقه. . .)
وقع هذا الإنذار على اليهود موقع الصاعقة، فتحيروا في أمرهم، ولم يجدوا لإنذار (محمد) دفعاً، ومكثوا أياماً يتجهزون للرحيل حتى جاءهم رسول من عند (عبد الله بن أُبيّ) ينصحهم ألا يخرجوا من المدينة، وأن يقيموا في حصونهم، ويعدهم بأن يُعاونهم على قتال محمد. . . فآمن بهذا قوم، وكذَّب آخرون , ولم يكن لهم بابن أبي ثقة. . . واختلط عليهم الأمر، وضاقت بهم أسباب الحيلة، وكادت تقع الفرقة لولا أن كبيرهم (حيى بن أخطب) وقف بينهم قائلا: (كلا، بل أنا مرسل إلى محمد أنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا. . . فليصنع ما بدا له. وما علينا إلا أن نرمَّ حصوننا، وننقل الحجارة إليها، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماؤنا لا ينقطع، ولن يحصرنا محمد سنة كاملة) فأذعن القوم لمقالته، وانصرفوا لشؤونهم.
بلغت مقالة (ابن أخطب) رسول الله، وانقضت الأيام العشرة، دون أن يخرجوا من ديارهم، فاستعد المسلمون للحرب وساروا إلى فناء (بني النضير) يشقون أجواز الفضاء بالتكبير، وقام اليهود وراء حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، فحاصرهم رسول الله وقطع نخلهم، واعتزلهم (قريظة) وخذلهم (ابن أبي) فأيأسوا من النصر بعد حصار دام خمسة عشر يوماً، فاستلموا وأكل اليأس قلوبهم، وملك الرعب عليهم نفوسهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله