للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الذي يبقى أبداً والذي يسقيك من الخمر التي تنمي الحياة وتهب الخلود).

بالحب تتبدل الأشياء، فيصير الظلام نوراً والألم لذة، ويتحول الحديد ذهباً، ويتغير طعم المر فيصبح حلواً. وبالحب يحيا الإنسان حياة سماوية وهو لا يزال فوق سطح الأرض فيقول: (العاشق) المخلص هو الذي يقول له الله: (أنا لك وأنت لي).

فالعشق الإلهي هو التسامي عن كل أعراض الحياة، والطيران إلى الآفاق العليا، وتمزيق الحجب التي تحول بين العاشق والمعشوق وتحطيم ما يقف سداً بين الإنسان ومن أحب. والعشاق المخلصون في حبهم كالظلال إذا أشرقت عليهم شمس المعرفة تلاشت ظلالهم وأختفت، لأنها لا تقوى على البقاء في النور القوي الذي هو النور الإلهي وفي ذلك يقول: (يا حياة العشاق في الموت، ولن تجد قلباً إلا بعد أن يحطم قلبك).

والغرض من الحب والتضحية بالحياة الفردية وإفناء النفس، هو نشدان حياة أسمى وأرفع، ومن أ {اد إدراك الحقيقة فعليه أن ينكر ذاته ويعتبر نفسه غير موجود. وهو يقول: (أولاً، تنزع النفس من النفس، ثم تفصل قدم عن قدم، وأن تعتبر هذه الدنيا غير مرئية، ولا ترى منظر نفسك).

أما الحياة الدنيا وزخرفها ومتاعها، والنفس ومشاغلها ولهوها، فهي حجب كثيفة تحجب المحب عن بلوغ مأموله؛ فعليه أن يجتاز هذه الموانع ليصل إلى النشوة الروحية حيث ينسى نفسه ويرتفع إلى جلال الحقيقة الخالدة في بهائها وروعتها. وإذا وصل المحب إلى هدفه المنشود وأتحد بالذات الإلهية فقد حصل على الخلود وأنفلق له صبح السعادة وشع نور رب الأرباب في روحه وملأ جوانب نفسه. وفي ذلك يقول (ذلك الذي حصل على مقام ومكان في ملكوت السموات ونورها، لا يزال يغرق في النور دائماً).

والمحب الذي يصل إلى هذا النوع من التوله بحب الله والهيام بجلاله يكون قد حصل على الحياة المتحدة، والإنسان إذا بلغ هذه المنزلة صار عارفاً بالله، ولم تعد به حاجة إلى الوساطات والشفاعات. لذلك يرى جلال الدين أن الأنبياء المرسلين لا يحتاج إليهم إلا الأشخاص العاديون، وأما من أتحد بالواحد وأصبح يسمع الصوت الباطني فقد استغنى عن الكلمات الخارجية لأنه صار من أولياء الله الذين أسكرهم حبه فثملوا بخمره وغرقوا في جلال عظمته، واتحدوا مع البحر اللانهائي للذات الربانية فيقول جلال الدين في ذلك (لقد

<<  <  ج:
ص:  >  >>