تخلصت مصر من هذه الحملة. . . ولكن مهمتها التاريخية لم تنته بعد، إذ كان الصليبيون لا يزالون ممتلكين سواحل بلاد الشام، فأخذ الظاهر بيبرس بعد أن تبوأ عرش مصر ينازلهم، حتى أستولى منهم على (صفد ويافا وأنطاكية) ثم جاء السلطان خليل بن قلاون من بعد، وحاصر (عكا) وضيق عليها الخناق ففتحها سنة ١٢٩١م ولم ينج من حاميتها أحد، وأحرق المدينة، فدب الخور في قلوب الباقين من الصليبيين ببلاد الشام، ولاذوا بالفرار، مخلفين وراءهم قلاعهم وحصونهم، وخلصت مصر المسلمين من شرور الصليبيين الذين دفعهم تعصب البابوات إلى هذه الحرب الطاحنة التي أستمرت قرابة قرنين من الزمان، وعاد السلطان خليل إلى القاهرة يسوق اسرى الفرنج مكبلين، وأعلامهم من خلفهم منكسة، ورءوس قتلاهم على ألسنة الحراب (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).
(ب) المغول: في أوائل القرن الثالث عشر خرج (جنكبر خان) من أواسط الصين على راس جيش من المغول، وهجم على بلاد الاسلام، فأستولى على التركستان، وخراسان، والهند وخرب مدنها سنة ١٢١٩، وعاد إلى بلاده بعد أن ترك البلاد التي فتحها في أواسط آسيا وجنوبها قفراً بلقعاً، ثم غزا خلفاؤه بلاد فارس والعراق، ولم تأت سنة ١٢٥٨ حتى كان (هولاكو) عاهل المغول على فارس، قد استولى على بغداد، وأزال ملك العباسيين وقتل الخليفة المستعصم وأفراد أسرته وعشرات الألوف من البغداديين، في مناظر هائلة، ومشاهد مروعة، من التدمير والتخريب، وتابع سيره نحو الشام كالسيل الجارف، والريح العاصف، فأستولى عليها في سرعة البرق، وأرسل إلى مصر رسالة تهددها فيها بالغزو إن لم تخضع وتسلم؛ وكان على عرش مصر إذ ذاك المملوك (قطز) الذي قابل رسالة هولاكو بما تستحقه فمزقها، وقتل رسله، وكان هذا الرجل المجاهد قد أعلن للمصريين أنه لم يتبوأ العرش إلا لتخليص البلاد من المغول، وأنه سيترك الملك بمجرد الانتصار عليهم، فسار بجيشه لملاقاة التتار، وقابلهم على مقربة من بيسان في موقع يسمى (عين جالوت) ولأول مرة ذاق المغول على يد المصريين هزيمة منكرة فروا على اثرها هاربين إلى ما وراء نهر الفرات، واستطاعت مصر أن تؤدي رسالتها التاريخية في حماية المدنية الإسلامية.
ولما تولى عرش مصر (الظاهر بيبرس) بعد قطز أخذ يعمل على إعادة الخلافة العباسية، وإرجاع المغول إلى ديارهم.