ولله ما أبدع الحسن! فقد كان شاعراً قبل أن يكون عاشقاً؛ فهو يتأثر بالمنظر الرائع فيبرز صورته الجميلة في مرآة شعره، وإن شغله بعض الوقت عن فاتنته، ولا يعقل أن ينقص هذا من حبه في قليل أو كثير، لأن الشاعر حساس مرهف يتأثر بكل ما يرى ويسمع فيتغنى به في سهولة ويسر. ولئن كان المجنون قد طاف مع الطائفين، وشاهد ما شاهده الحسن، فلم يخض كصاحبه فيما خاض فيه الملبون، ومضي يتساءل عن ليلاه ويرسل زفراته الشعرية المحرقة، فلأن قيساً كان عاشقاً قبل أن يكون شاعراً؛ فهو على النقيض من أبي تواس، ولا تثريب عليه إذا اشتغل بليلى عن كل شاغل، ونسى موسيقى التلبية الفاتنة. وليت شعري كيف يصيخ إليها تأته مجنون!
وكثيراً ما يقف الأدباء أمام مقطوعة الحسن في التلبية وما يشاكلها من أشعاره في الزهد والتوبة حائرين مرتبكين، حيث يستغربون صدور هذه النفثات الصادقة من خليع مستهتر بالشرع الحنيف. لقد فات هؤلاء جميعاً أن لكل نفس مهما غرقت في الخلاعة والفسق سبحات خاطفة تصلها بالسماء فتندم على ما فرطت في جنب الله، وتتجه إلى الخالق مستغفرة باكية، فلا عجب إذا أدركت الشاعر هذه اللحظات الخاطفة فقال أبياته الزاهدة، ولا سيما والحسن برغم مجونه الزائد متصل السبب بالآثار الدينية والمواعظ الروحية؛ فقد صحب في صباه أئمة الدين، وروي الحديث النبوي، حتى عده الجاحظ الذهبي في ميزان الاعتدال من رواته، وإن هجنه ووصمه بما يسقطه ويرديه، كل ذلك يدعوه إلى الندم والحسرة على ما ترتكبه ويأتيه. وأعتقد أن شهرة الشاعر بالخلاعة قد جنت عليه أكبر جناية، فقد طاب له أن يتناقل الناس نوادره وأشعاره وكلها طريف ممتع في بابه - وخيل إليه أنه إذا أنقطع عن غيه، سكت الناس عنه فلم يلهج بذكره ذاكراً. وصاحبنا - كجميع الشعراء كلف بالشهرة مولع بالظهور، بل إنه صرح بذلك لأبي العتاهية حين لامه في تهتكه. وإذا كان الصيت الذائع في رأيه لا يكون بغير الخلاعة الزائدة، فليتطلبه من طريقها الشائن. . . وهذا ما كان!