للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نعم، لقيته ولا أزال ألقاه في كل مكان صاحبته فيه، وعند كل ما يذكرني به. تحوم ذكراه على نفسي، فآنس بها، وأستوحش لبعده المادي أنسا ووحشة مجتمعين. . . وكثيرا ما أتمثله يحدثني حديث المحلق فوق الحياة، الساخر من سخف الأحياء وتفاهة مراميهم، ولا أكاد أجد ما أحدثه به، إذ أراه واقفا على كل ما هنالك. . . وأستغرق في هذا الشعور حتى تتجلى عني الذكرى لأمر مما يشغلني، فأنصرف إلى ما أنصرف إليه وفي نفسي من الأسى طعم شديد المرارة!

كنت أسير في يوم من الأيام الماضية بشارع يقع فيه منزل رجل من الأعلام ممن كان الزين يسعى لزيارتهم مدفوعا بدافع الصداقة، وإذا هو كأنه يسير بجانبي وقد أحطت ذراعه بذراعي، وكأننا نقصد منزل ذلك العلم كما كنا منذ سنوات. ولكنه يقول لي: لا. لن نزوره، قلت فيه شعرا، ثم تقطعت الأسباب!

وبهذا الإيجاز أدرك ما يعنى، فقد كان الزين يحرص على مودة أصدقائه من أهل الفكر والأدب، وكان ينفق عليهم من شعره وهو الضنين به على غيرهم من ذوي الجاه والسلطان، وكانوا يحتفون به ويحسنون استقباله. . . ثم مضى. . ومضى معه كل شيء. . . تقطعت الأسباب!

ومضى عام ولم يوف حقه من تأبين ورثاء، ولم يطبع ديوانه المخطوط، ولم يصنع لليتيم شيئا ذو بال. ولم يكن للزين ذنب إلا أنه كان شاعر كبيرا، وكان موظفا (باليومية) في دار الكتب المصرية، وقد ظل بها أكثر من عشرين عاما يخرج لها وللناس كتب الأدب مصفاة دانية القطوف، فلم تفكر هذه الدار في أن تصنع له شيئا، ولم يكن أقل من حفل للتأبين أو للاحتفاء بذكراه بعد مرور عام على وفاته.

والديوان المخطوط قررت لجنة التأليف والترجمة والنشر طبعه بالمجان لابن الشاعر الفقيد، وراح الصديق الوفي الأستاذ إبراهيم الابياري يطلبه، فوجد أن أخاه الشيخ محمد الزين قد أخذه، فاتصل به وأبلغه قرار اللجنة، فوعد بتسليمه ولا يزال لديه إلى الآن. وفي الديوان قصائد لم تنشر، وفيه قطع رقيقة فيها وصف دقيق وتعبير طريف، فهي من أحسن ما يقدم لتلاميذ المدارس.

ويسرني أن أذكر أن وزارة المعارف الآن (استمارة) لإعفاء أسامة أحمد الزين التلميذ

<<  <  ج:
ص:  >  >>