العزائم، وقد ارتدى المليك لباساً أخضر، وامتطى صهوة حصان يزدهي عجباً، ويختال تحت راكبه، وهذا الجيش قد أقبل على المعركة يصطلي نيرانها، ولا تكاد تسمع إلا صوت السلاح، فهذا جندي يقبل على عدوه بالرمح، وذاك يثقي السنان بالترس، ولقد بلغ من أحكام تلك الصورة أنها تخيل لرائيها أن ما يراه جيش حقيقي لا صورته، كما ملأ الوهم نفس البحتري، فأقبل يلمس الصورة بيده، ليتأكد أنها صورة لا حقيقية، قال:
فإذا ما رأيت صورة أنطاكية ... ارتعت بين روم وفرس
والمنايا موائل، وأنو شروان ... يزجي الصفوف تحت الدرفس
في اخضرار من اللباس على ... أصفر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجال بين بديه ... في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوي بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جد أحياء ... لهم بينهم إشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
وهذا الإيوان في القصر الأبيض عجيب الصنعة تراه فيخيل لهذا الكآبة التي تغمره أنه مزعج بفراق إلف عزيز عليه، أو مرهق بتطليق عرس، فكأنه يشعر بأحداث الزمان، ويحس بثقله عليه، ولكنه يحتمل متجلداً، وبرغم ما أصيب به من استلاب زينته، وعرائه من بسط الديباج، وستور الدمتس، لد يزده ذلك إلا عظمة وجلالاً؛ وبجمل الشاعر إعجابه الذي لا حد له في قوله:
ليس يدري، أصنع إنس لجن ... سكنوه، أم صنع جن لإنس
وهنا يسبح الخيال بالبحتري، فيعود به إلى عهد العظمة والمجد، الذي ظفر به القديم هذا القصر الموحش الضخم، فها هو ذا المليك بين حاشيته، وقد جلسوا في مراتبهم، يستقبل الوافدين عليه في إجلال وخشوع، بينما القصر يموج بمن فيه: قيان يملأنه بالغناء، ويعمرنه بالسرور؛ أما اليوم فقد انقضى كل شيء، وصار موضع عظة وعبرة، ولا يبخل البحتري على القصر بدموع يذرفها، برغم أن الدار ليست داره، ولا الجنس جنس قومه، ولكنه يحفظ للفرس هذه اليد التي أدوها إلى اليمنيين أهله، يوم أعانوهم على التخلص من غزو الجيش الذي بعثوا إليهم بجيش يقوده أرياط، ونشتم رائحة الشعوبية من بعض أبيات