القصيدة كما مضى، ومن هذا البيت الأخير الذي ختمها به، وفيه يعلن إعجابه بالأمجاد من جميع الأجناس، لا فرق بين عربي وعجمي، قال:
وأراني بعد أكلف بالأشراف طراً من كل سنخ وأس ويسير شوقي هذا النهج تقريباً؛ يصف الأثر في حاضره، ويمضي به الخيال إلى الماضي، فيصف ما كان له من أبهة وجلال.
زار شوقي قرطبة فراعه ما آل إليه أمر تلك العاصمة القديمة فقد انتقص الدهر أطرافها فعادت قرية حقيرة لا شأن لها، بعد أن كانت في القديم على عهد العرب، أعظم بلاد أوربا وأرقاها، يقول شوقي:
لم يرعني سوى ثري قرطبي ... لمست فيه عبرة الدهر خمسي
يا وقي الله ما أصبح منه ... وسقى صفوة الحيا ما أمسي
قرية لا تعد في الأرض كانت ... تمسك الأرض أن تميد وترسي
غشيت ساحل المحيط وغطت ... لجة الروم من شراع وقلس
وإذا كان البحتري قد تخيل قصور المدائن وجلالها، فقد تخيل شوقي قصور قرطبة وأبهتها، وقلده في تصويره الناصر تحت الدرفس. ويعود البحتري إلى يقظته فيرى الدار خلاء، كما عاد شوقي إلى يقظته فوجد الدار ما بها من أنيس، وخص البحتري الإيوان بجزء من قصيدته بمجده، وشوقي قد خص المسجد العتيق بجزء من شعره يخلده، وأرى هذا الجزء أروع أجزاء القصيدة وأقواها، إذا استثنينا تشبهه أعمدة المسجد بألفات ابن مقلة، إذ هو أشبه بوزن الجبلة بالنملة. أما الأثر الذي أحس به شوقي عندما وقف أمام هذا المسجد العتيق، فقد نجح في تصويره تصويراً ينقل هذا الأثر إلى نفوسنا، إذ يقول:
ورقيق من البيوت عتيق ... جاوز الألف غير مذموم حرس
أثر من (محمد) وتراث ... صار (للروح) ذي الولاء الأمس
بلغ النجم ذروة وتناهى ... بين (ثهلان) في الأساس و (قدس)
مرمر تسبح النواظر فيه ... ويطول المدى عليها فترسى
وسوار كأنها في استواء ... ألفات الوزير في عرض طرس
فترة الدهر قد كست سطرَيها ... ما اكتسى الهدب من فتور ونعس
ويحها، كم تزينت لعليم ... واحد الدهر واستعدت لخمس