الأدغال، ويقتات بالبذور، ويعيش على لحوم فريسته التي يمزقها بأظافره ويقطعها بأسنانه، كما يفعل إضرابه من الوحوش.
ثم لا يزال المؤلف يساير الإنسان القديم مرتقياً به، في أسلوب تصويري جذاب حتى يصل إلى العصر الحاضر، في قُرابة مائتين من الصفحات الحافلة بالملاحظات والتوجيهات، بعد أن ضمن التوفيق فيما قبسه وتخيره من الكتب: عربية وأجنبية، وفيما عرض له من تحليل ومناقشة، وتأليف بين أشتاتها، وتمحيص لرواياتها، منذ صحب الإنسان الأول إلى أن أبلغ العصر الحاضر: عصر الآلات والمناجم والبخار والكهرباء والطائرات والسيمى والراديو والتلفزيون. ولم ينسه ذلك المعرض الحاشد - الذي افتن في إقامته وتنسيقه - ما وراء تلك الصور المادية من السجايا والأخلاق الإنسانية ونشأة العادات، وأثر الأديان والشرائع والقوانين في الأفراد والجماعات، وأي قوة أمكنته من قهرها والتغلب عليها، بفضل ما منحه الله من عقل وتفكير. وكيف استقبل الإنسان فجر المدينة وهو - فيما يقول المؤلف -: (يتقدم ببطء من جمع الأطعمة إلى الصيد، ومن الجماعة المشتتة إلى القبيلة ومن ثم يتطور فيشكل نظاما اجتماعيا، ويوزع الوظائف بين الأفراد. كما لم ينسه أن يعرض لنهضات (مصر) و (بابل) و (فلسطين) و (الهند) و (الصين) و (واليونان) و (والفرس) و (روما).
- ٥ -
وقد ألم المؤلف - على ذلك - إلمامة بارعة بأنواع الزواج في الجاهلية، وقبس طائفة من الأمثلة تبين اختلاف نظمها وتباين عاداتها ولم يفته أن ينبه إلى ما ألفته بعض قبائل العرب في زمن الجاهلية (من نسبة أولادهم إلى أمهاتهم قبل أن ينهاهم الإسلام، وكان نهيه صريحاً في قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم، هو أقسط عند الله).
وهي - فيما رأى ويرى غيري من الباحثين - عادة جرى عليها الروم في قديم الزمان، واهلهم كانوا أسبق إليها من العرب.
وقد أشار المعري في لزومياته إلى هذه العادة، إشارة ساخرة قاسية، فقال.
(ولحب الصحيح آثرت الرو ... م انتساب الفتى إلى أمهاته
جهلوا من أبوه، إلا ظنونا ... وطلا الوحش لاحق بمهاته)