الأغنياء في أن يستأجروا بيوتا في الأرياف ليفروا إليها، إذا نزلت الملمات وكانت (الغارات)؟
لا يا سادة. . . لم يفكر في الفرار إلا (المنافقون والذين في قلوبهم مرض). أما المسلمون فكانوا يعلمون أن المسلم الذي يفر من بلده إذا دهمه العدو لا يكون مسلما، وأن الإسلام يفرض القتال عند ذلك على الرجال والنساء فرض عين كفرض الصلاة.
لا، ولم يعتكف رسول الله في مسجده، ليدعوا عليهم، ولو دعا لاستجاب الله دعاءه، ولكنه أراد أن يأتي البيوت من أبوابها، ويجر النتائج بأسبابها، ويعلم هذه الأمة كيف تصنع إذا دهمتها المخاوف، وحاقت بها الأخطار، وشرع يحفر الخندق والخندق هو (الملجأ الفني) من (غارات) تلك الأيام، ولم يكن العرب يعرفون الخنادق بل هي من طرائق العجم في قتالها.
وكذلك كان محمد يعد لعدوه أحدث المخترعات الحربية، ويفاجئه ب (أسلحة جديدة) لم يسمع بها. لم يأمر بحفر الخندق وهو مقيم في داره، هادئ هانئ مستريح، بل عمل معهم، يده قبل أيديهم، حمل التراب حتى غطى بطنه التراب، وجاعوا فجاع معهم، وربط على وسطه من الجوع الحجر، وكان أقواهم يدا، وأثبتهم قلبا، عرضت صخرة لم تعمل فيها المعاول، ولم تؤثر فيها سواعد الرجال، فلجئوا إلى محمد، فلم يستطع أن يكسرها إلا ساعد محمد، وهو يعمل بلا قميص شأن الرياضي القوي، لا شأن هؤلاء (المشايخ) الذين يمشون ورؤوسهم محنية، وأطرافهم متخاذلة. . . كان قد هدهم المرض!
أعد الخندق ل (الدفاع السلبي)، ثم خرج مع المسلمون ل (الدفاع الإيجابي)، وولى على المدينة ابن أم مكتوم ما اختاره لعصبية أسرة، ولا لجامعة حزب، ولا لصلة قرابة، بل لأنه أحق بالولاية وأولى بها، ولم ينازعه أحد ولايته لأن الأمة التي تشتغل بالحزبيات، وتتنازع على الكراسي، والعدو على الأبواب لا تستحق الحياة.
وأحاط العدو بالمدينة، واشتد الخطب وعظم البلاء، وقلت الأقوات، وجاءت في خلال ذلك قاصمة الظهر بأن الحلفاء من يهود قريظة، خانوا العهد، وأخلفوا الوعد، وغبت عليهم نجاسة طباعهم، ونذالة أخلاقهم، صفة اليهود أبدا، أينما كانوا وحيثما وجدوا، فلم يفارق محمد ثباته وعزمه، وبعث يتحقق الخبر، وأمر رسوله أن يعلن إن وجده كذبا لتقوي