ظل بيت المقدس في أيدي الصليبيين أكثر من تسعين عاما. وكان من أكبر أماني نور الدين محمود أن يسترده للمسلمين ولكنه مات قبل أن يحقق أمله. فلما ملك صلاح البلاد واتحدت مصر والشام تحت سلطانه صمم على أن يستعيد الوطن المغتصب فأرسل إلى جميع أجزاء إمبراطوريته يستنفر الناس لقتال الفرنج وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وبلاد الشام يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه، ويأمرهم بالتجهز له، فأقبلت الجيوش من كل حدب، ومضى صلاح الدين على راس جيشه فالتقى بالفرنج عند حطين، ودارت عندها معركة لم يذق الفرنج لها مثلا منذ قدموا من ديارهم ومضوا بين أسير وقتيل. لم ينتظر صلاح الدين حتى يجمع العدو شمله المبدد، بل مضى يتابع انتصاراته، وأخذت مدن العدو تسقط في يده الواحدة اثر الأخرى، حتى إذا سقطت عسقلان والبلاد المحيطة بالمقدس شمر عن ساعد الجد، وذهب إلى بيت المقدس يريد فتحه، وهنا رأى العدو أنه لا قبل له بالجيش الزاحف فاستكان وطلب الأمان، وفتحت المدينة أبوابها لاستقبال صلاح الدين يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ٥٨٣، وأباح السلطان لسكانها الروم والفرنج المدنيين أن يعيشوا في بلاده، وان يستمتعوا بحقوقهم المدنية إذا شاءوا، أما المحاربون فعليهم أن يخرجوا بنسائهم وأطفالهم خلال أربعين يوما، على أن يدفع كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة وكل طفل دينار، فإذا لم يستطع واحد أن يدفع فهو أسير؛ غير أن السلطان لم ينفذ ذلك حرفيا، فقد دفع هو نفسه فدية عشرة آلاف، ودفع أخوه الملك العادل فدية سبعة آلاف، بينما مضى عدة آلاف بدون فداء. وقد حمل الناس والكهنة ذخائرهم من غير أن يتعرضوا لأذى ما؛ بل قدمت الدواب لكثير منهم، ممن لا يجدون ما يركبون.
لقد كانت إنسانية صلاح الدين على النقيض من وحشية أولئك الصليبيين الذين غزوا القدس وفتحوه، ومن قسوة أمرائهم؛ فإن كثيرا منهم مضوا إلى إنطاكية غير أن أميرها بيمند طردهم وأبى أن يقبلهم واغلق صاحب طرابلس مدينته في وجوههم، فمضوا إلى بلاد الإسلام حيث استقبلوا هناك احسن استقبال. وقد عدد أنواعا من قسوة الصليبيين ضد إخوانهم اللاجئين من بيت المقدس.
اصلح صلاح الدين ما تخرب من المدينة، ورم ما تهدم من المساجد، وحكم المدينة حكما يسوده العقل والحرية، ثم أمر بإحكام سور بيت المقدس، وانشأ مدرسة ورباطا وبيمارستانا