نوم ولا راحة ولا استكانة ولا شغل لك إلا بهذه الهواجس والفكر. إن الذي ألقاه منك ويلقاه بنوك الصغار قد يضيق الصدر منه، ويعز الصبر عليه، لا عمل لك ولا شغل إلا هذه المهاترات. ارجع إلى صناعتك الأولى وأرحنا من هذا العناء وخلصنا من شبح الكوبة، قل لي: بالله ما الذي جنيته من الأموال وما الذي اكتنزته من وراء هذه الصناعة صناعة التمثيل؟ إنك والله ما جنيت منها سوى التعب ومعاداة الناس وجور السلطان، وعار الأبد. إنك منذ مزاولتك هذه الصناعة ألبستني ثوب العار، كما جلبت لنفسك ولرهطك مذلة الأبد بهذه (الضربويات) التي نسمعها والتي درجت على ألسن الناس مدرج الأمثال. وهل إنسان في الكون يطيق سماع عبارات كالتي توجه إليك، وفيها التحقير والتشهير، وأنت إلى هذا لا تستطيع أنت وصحبك أن تصنعوا شيئاً، أرأيت أن عبارة:
أبو خليل يا بومة ... يا بو اللفه الرومي
أعطيني من ذقنك شعرة ... لأصلح ها لبيتوني
لو وجه مثلها إلى أحقر إنسان في العالم أكان يصبر عليها ويرضى هذا الذل؟
وهنا استشاط القباني من الغضب والحنق وصاح بها مجيباً:
على رسلك يا امرأة، وما تضيرني هذه الأهازيج والأقوال، ولو كانت هذه العبارات تضر إنسانا أو تحول دون وصوله إلى غاياته وبلوغ أمنيته، لأضرت بالعظماء وبالنبيين قبلي، لأنهم كانوا يلاقون من عنت الناس وجورهم ما لا يقاس ما لقيته بشيء تجاه ما لقوه، ومع هذا فقد مضوا في عملهم. صابرين مستكينين إلى أن أدوا رسالتهم تامة غير منقوصة، وجنوا ثمار جهودهم بأن خلدوا لهم ولأمتهم أحسن الذكر. فكوني متفائلة يا امرأة. والذي أمله منك التشجيع، وليس كالمرأة الصالحة معوان للرجل. فاستحيت هنا (أم خليل) ولامت نفسها قائلة (وأنا مالي أم علي تندب علي) وهنا نهض القباني المؤرق المتعب المكدود الذهن من فراشه وهو يردد قوله وجدتها والله وجدتها وجدتها. . ثم أمسك بيده قلماً وورقة وكتب بها رسالة إلى صديق له في الإسكندرية يدعى (سعد الله بك حلابو) وهو حمصي الأصل ومن أكبر تجار هذه المدينة الساحلية العظيمة، وله مراكب تجارية تمخر عباب البحر وتنقل البضائع الصادرة والواردة إلى المدن والقرى الساحلية.
يستطلع رأيه في الرسالة بالشخوص إلى الإسكندرية. ولما أطلع حلابو على الرسالة وفهم