للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وما دمنا قد ذكرنا الحكمة العملية فلا بد أن نشير إلى زاهد قبيلة سكيا المتوفى سنة٤٧٧ قبل الميلاد (بوذا) الحكيم الذي جمع من الاتباع، وخلف من الأنصار، ما لم يتيسر لكثيرين من قادة الفكر ودعاة الدين في كثير من العصور. لا بد أن نشير إلى بوذا فهو خير ممثل للحكمة العملية في الشرق القديم، وأقدر مفكري عصره على التحرر من الخرافة، وأقربهم إلى النزعة الفلسفية التي لا تبالي بالموروث، ولا تني عن السعي إلى الحقيقة الخالصة، حتى لنجد لديه بذور مذهب فلسفي شاع في العصور الحديثة، مذهب ينكر وجود جوهر اسمه العقل أو الذات وإنما الموجود ظواهر نفسية، ووقائع شعورية، وأفكار تتابع وتتلاحق دون حاجة إلى جوهر يحمل هذه الأمور جميعاً، فنحن نفكر ونعقل ونتخيل وندرك ونشعر، وتتتابع الأفكار والمعاني والأخيلة والمدركات والمشاعر، فليس ما يدعونا إلى القول بنفس أو عقل أو ذات تحمل هذه الأمور.

ذلك مبحث في صميم الفلسفة يعد وثبة فكرية رائعة، ويضع لبنة من لبنات الميتافيزيقا. وقد أستنتج بوذا من هذه النظرية نظرية في الميتافيزيقا هي إنكار (براهما) أي أصل الوجود عند البراهمة، استنتجها استنتاجاً منطقياً من رأيه في الذات الفردية؛ ولكنه رغم ذلك لا يزال يتصل اتصالاً وثيقاً بالفكر الخرافي الذي يتأثر بالدوافع النفسية، ويستلهم الخيال في كثير من الأحيان، ناهيك بالجانب الأخلاقي في فلسفته الذي يجعل الزهد فضيلة الفضائل، وفناء الشخصية (النيرفانا) غاية الغايات. ولن أترك الحديث عن الملهم الحكيم، قبل أن أشير إلى آرائه في الفلسفة السياسية، من استنكار لنظام الطبقات، وإعلان للمساومة التامة، وإقرار بفكرة التعاطف بين البشر، ومبدأ السلام والمسالمة؛ وجميعها أراء تستهدف نفس الغاية التي أنتجت فلسفته: وإفناء الشخصية الفردية، وتغليب الطبيعة العقلية على الطبيعة الحسية، وإخضاع الإرادة الجزئية للإرادة الكلية.

وآخر مثال أزجيه من التفكير الصيني. ومن أحق بالذكر من بين قادة الفكر الصيني القديم من (كونفوشيوس)، الذي عاش في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. أفكاره عملية أي أخلاقية سياسية. ففي الأخلاق يؤكد فكرة الواجب وضرورة صدورها عن العقل، وضرورة تكميل النفس ويلح على أن الفضيلة اعتدال أي وسط بين الإفراط والتفريط، وينهي عن التطلع إلى المستقبل فهو هم وألم. وأما فلسفته السياسية، فترتكز على عداء للحرب وإيمان

<<  <  ج:
ص:  >  >>