يمنع من مساواتها للجملة الفصيحة وهو أنها ليس فيها سوى إسناد واحد، ولا تقال (بعد أن تصحح) إلا لخالي الذهن. أما الجملة الثانية الفصحى فإنها مشتملة على إسنادين ويخاطب بها من يكون شاكا في أن الرجال المعهودين له قد حضروا فلكل منهما مقام يغاير مقام الأخرى. وهذا ما يتعلق بالفرق بين الجملتين.
فأما الآيتان الكريمتان فإن من المقرر أن قراءة القرآن سنة متبعة فلا يجوز القراءة بغير ما روى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مما تسوغه القواعد العربية، ذلك بأن ما روى عن النبي هو العربي الفصيح الكفيل بأداء الأغراض المقصود أداؤها من النظم. وليس كل ما جاز عربية بالذي يفي بذلك؛ فليس كل ما جاز عربية جاز قراءة. ولنسق لذلك مثالا: قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) قريء تطهرهم بالرفع صفة لصدقة، على أن الجزم سائغ عربية في جواب الأمر، لكن لم يقرأ به أحد من السبعة، ذلك أن الجزم في جواب الأمر يقتضي ترتيب التطهير على مجرد أخذ الصدقة منهم كما يترتب الجزاء على الشرط، وليس الأمر على ذلك؛ فقد يؤدي بعض الناس الصدقة وهو الشحيح بها كاره لأدائها فلا تكون صدقة مطهرة له ولا مزكية لنفسه، وإنما تطهر الصدقة معطيها وتزكيه إذا أداها طيب النفس راضياً وجاد بها آناً بعد آن ومرة بعد مرة حتى تبرأ نفسه من داء الشح ووصمة البخل؛ وهذا سر التعبير بالفعل المضارع الإتيان بالصفة جملة فعلية دون أن تكون اسما مفرداً. هذا ولنعد إلى الكلام في الآيتين فنقول:
قد جرى المفسرون على أن يوردوا عند تفسيرهم الآيات ما تحتمل من أوجه الإعراب حسبما تقتضيه الصناعة النحوية دون نظر إلى ما يكون منها مناسباً للمقام ولما تقتضيه البلاغة. بيد أن الخاصة منهم كالزمخشري ومن اقتفى أثره يقدمون الوجه المناسب على غيره في الذكر حسبما أوتوا من ذوق علمي. وقد يقتصر ما أوتوه من الذوق عن إدراك دقائق المعاني والإحساس بلطائفها فيخطئون. وفي هاتين الآيتين قدموا الوجه الإعرابي الملائم للأسلوب البليغ الأعلى على سواه، فقدموا إعراب (الذين) و (كثير) بدلا على سواه من الأوجه وأصابوا. ووجه الصواب فيه ظاهر لمن ألم بقواعد البلاغة وتذوق أساليب البيان؛ فالآية (وأسروا النجوى الذين ظلموا. . .) جاءت عقب الحديث عن الناس والتعجب مما هم فيه من غفلة عن العاقبة وإعراض عن ذكرها وعن التفكير في أمرها مع اقتراب