الجائرة على الألحان الساحرة فضلت طريقها إلى قلبي. . . ولم تكن الملكة الناقدة في السن المبكرة قد بلغت من النضج ما يمكنها من إقامة الميزان لملكات الموهوبين وحملات المغرضين! وحين أقبل اليوم الذي خفتت فيه أصوات المعاول خجلا من صمود البناء، أرهفت سمعي لألحان الشاعر المفترى عليه، وأرسلت فكري يقف عند كل بيت من أبياته ويطيل الوقوف، ورحت أزن الرجل وشعره بميزان الذوق الذي يحتكم إلى العقل والقلب والشعور. . . وخرجت من هذا كله بشيء واحد: هو أنني آمنت بشوقي وكفرت خصومه!
كان السمع إذن مع أم كلثوم، وكان الفكر مع الشعر، وكان الخيال مع الشعر. . . أما الشعر فقد عرفت رأي فيه وفي صاحبه، وأما الغناء فلا بد فيه من كلمة! إن أم كلثوم في رأى الفن لا تمتاز بموهبة الصوت وحدها كما ينادي بذلك بعض الغلاة ولكنها تمتاز بموهبتين أخريين هما براءة الإلقاء ودقة الأداء. . . إنها تكاد تنفرد بتلك الموهبة التي تتمثل في سلامة النطق لمخارج الحروف في المقطوعات الشعرية، أما موهبة الأداء فتتمثل في أنها تنقل اللحن كما يلقى إليها في دقة عجيبة، يعينها عليها ذوق صقله المران وأذن بلغت الغاية في رهافة الحس الموسيقى. كل ما ينقص هذه الفنانة هو أن صوتها النادر ينطلق من أوتار الحنجرة دون أن يمر على أوتار القلب وهنا مفرق الطريق بينها وبين فنانة كأسمهان!
كلمات من (قطرات ندي):
حدثتك في العدد الماضي عن كتاب الأديب اللبناني راجي الراعي. . . ولن أنعت هذا الرجل إلا بكلمة (أديب) ولو ترك الأدب إلى المحاماة، وترك المحاماة إلى القضاء، وترك القضاء إلى حيث لا أدري ولا يدري!.
ولعل هذه الكلمات التي أنقلها هنا عن كتابه تهز قلبه وتحرك قلمه وتعود به إلى ماضيه. . . وإنها لكلمات تعلو في رأي فوق مستوى نظائرها في (كرم على درب) لميخائيل نعيمه. وإذا كنت قد استمعت لنعيمه في كرمه ودربه فما أحراك أن تستمع لراجي الراعي في قطرات نداه:
يقولون أبطلوا الثورات، ولكنهم ينسون أن الألوهية نفسها قد ثارت يا لخليقة على العدم!.
إذا شئت أن تبكي فاذرف الدمع أينما كنت، فلست في حاجة إلى زاوية تختارها فيها فالجميع يبكون!.