للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على أنه حقه يؤدي إليه.

ومهما يكمن شيء فاختلاف الثقافة هذا الاختلاف الصارخ بين العنصرين، وحرمان الشعب من التعليم العسكري - فضلاً عن الاختلاف في اللغة والجنس - كان له أثره في شجب هذه الأمة والتفريق بين طوائفها، وخلق جو من الشقاق والحقد والشك بينها.

وهذه العوامل كلها من دأبها أن تشيع الغربة بين طبقات الشعب، وأن تسلط بعضها على بعض، فيستأثر البعض بالنعيم والسلطان، ويبوء الآخر بالفقر والحرمان. ولا يتحقق بينهم معنى التعاون الصحيح الناشئ عن الشعور العميق بالواجب ومقتضياته. ولهذا يروي ابن إياس أن الشعب امتنع عن دفع الضرائب للأشرف طومان باي سلطان مصر حين الفتح العثماني مع حاجة هذا السلطان الشديدة إلى الضرائبالمذكورة. وكانت حجة الممتنعين أنهم لا يدرون حينذاك لمن البلاد! أللمماليك هي أم للعثمانيين الغازين؟ فهم ينتظرون ريثما ينجلي القتال ويعرف ولي أمر البلاد الشرعي، فتؤدي إليه الضرائب. . .

على أن جميع العوامل التي انتابت الأمة المصرية في ذلك العصر، لو انتابت أمة غيرها لقضت عليها القضاء الأخير، وشتت شمل بنيها، وفرقتهم أيدي سبأ، ولعانى الزمان معجزة إذا هم بجمع شملها ولم شعثها مرة أخرى.

ففي بقاء هذه الأمة، وفي حرصها على الذود عن كرامتها، والدفاع عن حقها، والسعي لإدراك أملها، ما يدل دلالة واضحة على مذ خورها العظيم من القوى الروحية والمقومات المعنوية.

وقد بدت منها هذه الروح في عصر المماليك في مناسبات كثيرة ومظاهر جمة. وأبرز تلك المظاهر هذه المكانة التي تبوأها علماء الدين وفقهاء الشريعة. فقد كانوا من صميم الشعب وناشئته وآلت إليهم - كما نوهنا - مناصب والكتابة والتدريس والفتوى ورعاية الوقف وأموال اليتامى وما إلى ذلك، فأصابوا حظاً وفيراً من الفقه والعلم والدين والمال جميعاً، أنبت في نفوسهم عزة ومنعة، وفي أفئدتهم أنفة وإباء، فكان كثير منهم يتأبى إلا على الحق، ويترفع إلا عن العدالة. وكانوا بطبيعة نشأتهم، وبطبيعة عملهم الرسمي وغير الرسمي، ألصق بالشعب وأدنى صلة به وأكرم هيمنة عليه، وأقدر على التأثير فيه. ولهذا خشيهم السلاطين وتملقوهم لكي يدرءوا عن أنفسهم مغبة سخطهم، ورحبوا بالوافدين منهم الأمصار

<<  <  ج:
ص:  >  >>