من فتحات الخناق لتقذف الحمم، وتجاوبت الطلقات، وتلوت في أجواز الفضاء مسرعة متوالية كأنها حيات تسمى، وكأنها تزأر زئيراً مفزعاً، وتدوي دوياً مزعجاً، لو سمعه من لم يتعود لطاش عقله، وفقد السيطرة على أعصابه.
ولكن أفراد الكتيبة كانت قلوبها تخفق الشجاعة كلما سمعت قصف المدافع، ورعد القنابل وعصف البنادق، ولم يفت في عضدها تلك الانفجارات من حولها ولا ذلك الدوي الذي يصم الآذان.
وأحس الجنود أن ما معهم من العتاد أوشك أن ينفذ، ومع ذلك لم ينكص واحد منهم عن التقدم. ولكن اقتصدوا كثيراً في إطلاق الرصاص، وكانوا يسدون إلى الهدف دائماً. وفرغت القنابل ولم يبق لدى الكتيبة سوى عدد لا يفي بالغرض من الطلقات.
وأحس العدو ذلك من فتورهم في الهجوم، فقويت روحه، واجترأ على الخروج من مكمنه، وواجه أفراد الكتيبة بالعدد والعدة، وتحولت المنطقة إلى قطعة من الجحيم؛ فالتهبت البقاع، واشتد القتال. . . ثم نفذت ذخيرة الكتيبة، وخمدت مدافعها، وسكتت بنادقها، ولكن أحداً من رجالها لم يتزحزح عن موقفه لأنهم يعلمون أن لهم إحدى الحسنين، والنصر المؤزر أو الفوز بالجنة.
ونادى القائد محمد: إلى الأمام أيها الأبطال. . . لا ترهبوا الموت. . . إلى الممر فهناك النصر. . . لكنه لم يتم كلمته فقد نفذت إلى قلبه رصاصة آثمة ألقته على الأرض، وحاول أن يقف على رجليه فلم يستطع. . . أراد أن يستمهل الموت حتى يؤدي واجبه كاملا لكن الموت لم يمهله. . . تقدم خطوتين إلى الأمام زحفاً ولم يقو على الاستمرار، فعلم أنها آخر لحظاته فرمق الجميع بنظرة عطف وحنان، وسمعه أقرب الجند إلى مكانه يهمس بكلمات متقطعة وعى منها:(إلى الأمام. . يا أصدقائي خذوا بثأري. لا تهدروا دمي. . . تحيا. . .) ثم فاضت روحه إلى بارئها تشكو تعسف الصهيونيين، وتستنجز وعيده فيهم (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله). . . وأتم الجندي كلمته. (تحيا فلسطين).
ثم تقدم أصدقاؤه لينفذوا خطته، وهم يعلمون أنه إنما أراد أن يقذف الرعب في قلوب الأعداء بهذا التقدم، فيفسد عليهم خططهم، وإن أعقب ذلك موت كثير من رجاله، فالحرب تضحية.