ثم سمع الجند صوت القائد يأمرهم أن يثبتوا في أماكنهم، وأن يفكروا في الانسحاب حتى لا يفجعوا الوطن في حياتهم؛ فإن الذخيرة قد نفدت، وإن القائد قد قتل، وإن التقدم مع كل هذا معناه موت الباقين. وكان مما قاله لهم: قفوا إلى أن تصدر إليكم أوامر أخرى.
واشتدت ضربات اليهود، وأقاموا ستاراً كثيفاً بمدافعهم الرشاشة لا يتسنى لإنسان معه أن يرفع رأسه إلى أعلى إلا إذا كان في غنى عن حياته.
وطلب القائد إلى الجند أن ينبطحوا على الأرض، وأن يزحفوا على بطونهم إلى أن يخرجوا من ميدان القتال ويبعدوا عن مرمى قذائفهم.
وكانت جثة قائدهم محمد على عشرة أمتار منهم، تسبح في بحر من دمائه الزكية، والتبس الأمر عليهم أيتركون هذا الجدث الطاهر في تلك العصابة الآثمة يمثلون به؟ أم يعودون إليه ليحملوه معهم وإن سبب لهم هذا العمل المتاعب والصعاب.
ولم يطل بهم التردد؛ فقد وقف (سعيد) - وهو جندي من جنود الكتيبة غير المبرزين - وأسرع إلى حيث جثم قائده وحاول زملاؤه أن يحولوا بينه وبين ما أراد فلم تجد محاولتهم. . . وانحنى سعيد على جثة القائد بين يديه وهم به أن يرفعه إلى أعلى، وما هو إلا أن برز صدره حتى ندت عنه صيحة مدوية أعقبها أنات موجعة؛ وسقطت الجثة أمامه؛ فقد سدد إليه الأعداء رصاص بنادقهم فأصابه منها رشاش، خارت له قواه، واصطكت أسنانه ولكنه ملك زمام شجاعته، واستجمع قوته وحمل الجثة ثانية، وأسرع بها إلى قومه وهو يجر رجليه في مشقة بالغة وحين وصل إلى رفاقه سقط أمامهم مغشياً عليه، تتفجر الدماء غزيرة من جوانبه تخط على رمال الصحراء صفحة المجد الخالد والبطولة النادرة. . . وارتسمت على شفتي سعيد بسمة الرضا بما صنع؛ فقد حال بين جثة قائده وزميله وبين الأعداء ن تبطتتتتتبطشتبطش أن بها. وتم انسحاب الكتيبة إلى مكان أمين، وقد حملوا معهم سعيداً الجريح، ومحمداً القتيل. ثم التفوا حول سعيد يضمدون جراحه، وكلهم أسف لما حل به. فلما أفاق توالت عليه الأسئلة، عن حاله، وبماذا يحس، وأجابهم بصوت خافت: إني بخير والحمد لله. . . ليست حياتي في خطر. . . وليس بي سوى الحزن على محمد القائد البطل. . . لقد كتب المسكين إلى أمه أمس، وأنا الذي أودعت البريد رسالته التي يقول فيها إنني في صحة جيدة. . . وإنني سعيد في حربي لهؤلاء الجبناء الأنذال، وأجد اللذة في