أعدائهم، وتزلزلت قواهم، ووهنت عزائمهم وإذا بهم يلوذون بالفرار، أمام هذه الوثبات الجبارة من هذه الأسود المؤمنة. وظن المرابطون على الجبل أن المعركة قد انتهت، فانصرفوا إلى الغنائم، وكانت هذه فرصة لجيش قريش، فكر راجعا وعزم على أن يمحو الإسلام، ويبطش بمحمد، واستمات المشركون في الهجوم، وعللوا أنفسهم بالحياة بعد الموت، وبالنصر بعد الاندحار. . .
رأت أم عمارة كتيبة من الأبطال المغاوير الثابتين حول محمد يردون عنه، ويقاتلون دونه، وقد آلوا أن يفدوه بأرواحهم، ويموتوا أمامهم عن أمامه عن أخرهم، فثارت فيه حميت الإسلام، وأيقنت أنها ساعات فاصلة في تاريخ هذا الدين، وتمثلت أمامه الجنة الوارفة الظلال بسبيلها ونعيمها وخلودها، ورأت أن ليس بينها وبين الجنة وما أعد الله فيها للشهداء إلا أن تجود بهذه الروح، وتهرب من هذه الدنيا. . . وذهبت تطوف بخيالها في جوانب هذا العالم المنشود، وتمتع الروح بهذه الأماني العذبة، والآمال العطرة. . . ولم يردها إلى الواقع التي هي فيه إلا صياح القريب ترامي إلى أذنها، وصوت قوي يقول (دلوني على محمد لا نجوت إن نجا). فنظرت أم عمارة فإذا (بابن قميئة) يعدو والسيف بيده قاصدا رسول الله، فأظلمت الدنيا في وجهها، وربت ربوة شديدة، وزأرت زئير اللبؤة ديس عرينها، وانتضت حسامها البتار، وأقبلت تعترض طريق أبن قميئة. . . وتستقبل ضرباته بصدرها وكتفيها، حتى ردت هذا الوحش الهائج عن محمد، وأكرهته على الفرار حتى ليقول الرسول صلوات الله عليه (ما ألتفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني).
ورأت أم عمارة ابنها، وفي ذراعه جرح ينزف الدم فأقبلت نحوه تعصب جرحه وتضمده، ثم تحفز إلى العمل، وتلقى عليه دروس الصبر والبطولة فتقول:(قم يا بني فضارب القوم وجاهد في سبيل الله. . .) فيقوم الفتى الباسل، ترب الشجاعة، ولدة الإقدام، ويمشي نحو سيف ملقى بجانبه، ليعاود الكر والفر، ويقاتل في سبيل الله، وهنا تند من رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فيرى هذا المشهد المؤثر فيمتلئ قلبه إكبارا وحبا ويقول:(ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟) ويلتفت عن يمينه فيرى رجلا مقبلا يخب في سيره، ويلتفت يمنه ويسره فيقول الرسول:(يا أم عمارة هذا الذي ضرب ابنك) وما إن سمعت أم عمارة نداء الرسول حتى أهتز كيانها، ووثب جنانها، وأسرعت تعترض طريقه، وقد آلت أن تثأر