هذا، يرى منه الإنسان مبلغ ما تتردى فيه الخلائق من سخافات، ومبلغ ما تنطوي عليه البشرية من حماقة.
وكنا نتخير من الأمكنة أهدأها، ونهرب بسعادتنا بعيدين عن الضوضاء والصخب، وكأنها وهي ترقى القمم، أو تنساب معي إلى الوادي دنيا من الفتنة تتحرك. . على أن هذه التشابيه والصور كانت تجيش بنفسي ولا أجرؤ على إسماعها إياها. . . فهي لا تسمح لي أن أصور تموجات النسائم على غدائرها، ولا كيف تفتضح الموسيقى والشعر، قبالة ضحكتها وبسمتها، ولقد سألتها مرة عن سر هذا الامتعاض، فقالت: ذلك أن الجمال ليس في الشكل، وإنما هو فيما وراءه. . على أن في كلامك غلواً، قلت: نعم ولا، الجمال في ما وراء الأشباح، وليس في كلامي غلواً، وكذا أنت ترين أن جمالك أمثل من أن نتطاول إلى وصفه، فصمتت ثم قالت: دع هذا وخذ في غيره.
قلت: فليكن فقد يجر إلى ما أخذنا على أنفسنا العهد بالابتعاد عنه. . . ثم تأخذ الحديث بلباقة وتديره على الوجه الذي تريد، مبتعدة فيه عن كل ما من شأنه أن يستثير فيك هذا الذي يطمع فيه عباد البدن. وهي إذ تحدثك لا تجهد في إقناعك، بل تلقي الفكرة موجزة واضحة، ثم تتركك تتخيل، وتقيس وتقارن، ولك أن توافقها أو تخالفها فهذا ليس بالشيء المهم، وإنما المهم أن تفكر!.
شارف العام أن ينتهي، وأنا لا أزال في غمرة حبها أضوي جسماً، وأنمو فكراً وإحساساً، أصبحت شغلي الشاغل، لقد لهوت عن العالم، ونسيت أن به خلائق يعز عليها أن ترى آلافاً تمتزج بالمحبة، وتلتحم بالروح، حتى كان اليوم الذي سحق فيه قلبي، وتحطمت كأس سعادتي، فقد جئتها في عصاراه كالعادة، لنذهب إلى نزهة اتفقنا عليها، فجلست إليها ريثما تنهي عملها، وتصلح من شأنها، ولكني أوجست خيفة، وأنا ألاحظ عليها أثر اضطراب تحاول إخفاءه، ثم رأيتها تتحفز للكلام، وبعد لأى استطاعت أن تجمع شتيت إرادتها فقالت:
أصغ إلي. . . . . . . قلت: كلي آذان. . . . .
قالت: أو لم تسمع؟. . . لقد أكلتنا الألسنة!.
قلت: لا أدري ما تقصدين؟ قالت: ستدري. إن هذه البشرية المتمرغة بالخسة، المتهفتة على الساقط من اللذة، لا ترى من الممكن أن تقوم علاقة بين متحابين، لا تمت إلى هذه الأسباب