وبين الكنائس من جهة، وبين الكنائس المختلفة من جهة أخرى. . . استقصوا أخبار الحروب الأهلية والدولية التي نجمت من هذه الاختلافات الدينية في مختلف أقسام البلاد الأوربية، حتى في فرنسا التي تظهر الآن أكثر تباعداً عن الاهتمام بالأمور الدينية من جميع بلاد العالم. . . قلبوا صحائف التاريخ التي سجلت أعمال محاكم التفتيش من جهة، وحياة مؤسسي المذاهب الدينية من جهة أخرى. . . فإنكم تضطرون إلى التسليم بأن الاختلافات الدينية التي حدثت في البلاد الأوربية كانت - بوجه عام - أوسع نطاقاً، وأكثر تنوعاً، وأشد عنفاً من التي حدثت في العالم العربي.
وأما الاختلافات السياسية، فأمرها يحتاج إلى أشمل، وتفكير أعمق. . .
فيجب علينا أن نلاحظ قبل كل شيء: أن العرب انتشروا - بعد الهجرة النبوية - بسرعة خارقة، في بقاع واسعة جداً من القارات الثلاث المعلومة قديماً. ففتحوا خلال قرن واحد، بلاداً أوسع بكثير مما فتحه الرومان خلال ثمانية قرون.
تصوروا الاتساع الهائل الذي وصلت إليه الدولة العربية في أوائل القرن الثاني للهجرة وأواسط القرن الثامن للميلاد. . تتبعوا حدود تلك الإمبراطورية التي كانت تمتد من سواحل بحر المحيط الأطلسي إلى شواطئ نهر السند وسهول كشغر، ومن سفوح همالايا إلى جبال البرنس والألب، ومن سواحل بحر الهند إلى أواسط بحر قزوين وبحيرة آرال، ومن باب المندب إلى جبال القافقاس. . . وتذكروا في الوقت نفسه بساطة الوسائط الناقلة والمواصلات ووسائل الحروب والسيطرة التي كانت معلومة ومستعملة في تلك العصور. . . ثم قولوا لي: كيف كان يمكن أن تبقى تلك السلطنة المترامية الأطراف مصونة من مغبة الانقسام مدة طويلة من الزمن، بالرغم من اختلاف الشعوب الكثيرة التي دخلت تحت حكمها، وبالرغم من طول المسافات الهائلة التي كانت تفصل ثغورها من عاصمتها، وضآلة الوسائط التي كانت تضمن اتصال هذه العاصمة بتلك الثغور.
قولوا لي: أية سلطنة من السلطنات التي يذكرها التاريخ القديم والوسيط، استطاعت أن تسيطر على مثل هذه البقاع المترامية الأطراف، مدة أطول من التي سيطر عليها العرب، دون أن نتعرض إلى اختلافات وانقسامات؟
لا تنس أن إمبراطورية إسكندر الأكبر - في القرون الأولى - تجزأت بعد موت مؤسسها،