مع أنها كانت أصغر بكثير من الإمبراطورية العربية. كما أن إمبراطورية شارلماني - في القرون الوسطى - لم تسلم من الانقسام بعد موت عاهلها، مع أنها كانت قليلة الاتساع جداً بالنسبة إلى اتساع الدولة العربية في أواخر عهد الأسرة الأموية، أو أوائل عهد الأسرة العباسية.
ولا تنس أن انقسام السلطنات والإمبراطوريات الكبيرة وانحلالها إلى إقطاعيات صغيرة كانت من الأمور الطبيعية المألوفة في جميع أنحاء العالم المعلوم في القرون الأولى والوسيطة.
ولذلك أعود وأسألكم مرة أخرى: كم أمة من الأمم التي عرفها التاريخ كانت أقل اختلافاً وأكثر اتحاداً من الأمة العربية من الوجهة السياسية؟
اليونان؟. . . ولكن التاريخ يشهد شهادة صريحة على أن هذه الأمة لم تتحد سياسياً في يوم من الأيام. . . كانت كل مدينة من المدن اليونانية الكثيرة مملكة قائمة بذاتها، دولة مستقلة عن غيرها. وهذه الحالة كانت تبدو لليونانيين طبيعية وضرورية حتى أن كبار مفكريهم كانوا يحبذون هذه الحالة، وكانوا يشاركون الرأي العام في هذا المضمار. وقد قال أفلاطون: إن عدد المواطنين في الدولة - أي الجمهورية - يجب ألا يزيد على خمسة آلاف. وقال أرسطو: إن الدول يجب أن تكون صغيرة، حتى يستطيع جميع أفرادها أن يعرف بعضهم بعضاً معرفة مباشرة.
في الواقع أن هذه المدن المستقلة - أي هذه الدويلات الصغيرة - كانت تتفق وتتحالف من حين إلى حين لدرء الخطر الخارجي الذي يحدق بالجميع. غير أن هذا التحالف كان لا يلبث أن ينفصم وينحل من جراء تنافس المدن الرئيسية على زعامة الحلف.
ومن المعلوم أن أشهر وأهم هذه المحالفات تكونت عند هجوم الماديين على بلاد اليونان. غير أن هذه المحالفة أيضاً لم تعمر طويلا، بل انحلت وزالت قبل أن يمضي على تكوينها عقدان من السنين!
وقد انقضى تاريخ اليونان السياسي بالمنافسات والمنازعات التي قامت بين أثينا وأسبارطة وكورنت. ومن المعلوم أن هذه المنافسات أدت إلى حدوث عدة حروب دامية بين مختلف المدن اليونانية كان أشهرها الحروب التي عرفت باسم حروب اليلويونيز